الواقع والمواقع … سلسلة مقالات ننشرها حصريا في جريدة “ديريكت بريس”، للتسلية والترفيه وايضا للتوعية والتثقيف. نرصد من خلالها تفاصيل حدث خلق ضجة اعلامية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لنتتبع تأثيره على ردود افعال المواطنين وصناع القرار في العديد من دول العالم.
بقلم: رشيد صفـَـر
الحلقة 24 : الممثلة المغربية فاطمة عاطف في موسم قطف فراولة الإشاعة !!!
في عالم تحكمه سرعة الصورة أكثر من عمق السياق، وتُقاس فيه الحقائق بعدد “اللايكات” لا بعدد الشهود، قد تكفي صورة أو لقطة واحدة لخلق أسطورة رقمية وحدث جاذب للفضول، وبضغطة زر تتحول “الممثلة” الى مهاجرة سرية، ويتحول المشهد الفني الى نشرة اقتصادية عن البطالة وسط الفنانين.
هذا بالضبط ما وقع للممثلة فاطمة عاطف، يوم 18 أبريل 2025 … عاطف، الوجه الهادئ القادم من مكناس ..
وجدت نفسها فجأة في قلب زوبعة رقمية، إثر انتشار صورة لها داخل حقل للفراولة، وهي منحنية في وضع يُشبه وضع الفلاحات أثناء الجني، وخلفها فتاة بلباس لا يوحي بأنها عاملة فلاحية. كتب أحد المعلقين : “مجرد زميلة مغربية في الغربة”.
وانطلق بعدها سيل من التعليقات، من بينها :
“انظروا أين أوصلت الظروف القاسية الممثلة فاطمة عاطف !!!”.
وتعليق آخر أثار الجدل أكثر :
“إنها تعمل في حقول قطف الفراولة بإسبانيا !!!”.
البداية.. تعليق واحد يكفي
الساعة تشير الى الثامنة والنصف مساء من ذلك اليوم، انتشرت الصورة بسرعة على صفحات فايسبوكية مغربية ومنها إلى باقي منصات التواصل الاجتماعي وربما من صفحة الفنانة نفسها أو أحد زملاءها في الميدان، شاعت الصورة مرفقة بتعليق :
“فنانة مغربية شهيرة تضطر للهجرة والعمل في جني الفراولة بإسبانيا”.
في أقل من ساعة، تنهال التعليقات، وتختلط فيها مشاعر الغضب والحزن والشماتة. البعض رأى في الصورة مؤشرا على انهيار القيم، رغم أن جني الفراولة عمل شريف يختزن قيما حضارية ..
فبينما سارع آخرون للحديث عن تهميش الفنان المغربي، تحولت فاطمة، دون علمها، الى أيقونة رمزية لهجرة الفن والفنانين.
الحقيقة خارج إطار الكاميرا
قبل أن تنتفخ الاشاعة أكثر، ظهرت الحقيقة. مصادر قريبة من الممثلة عاطف، وبعض أصدقائها، عمموا توضيحا بسيطا : الصورة اُخذت من كواليس تصوير عمل درامي سمعي بصري بضواحي فاس. الأمر لا علاقة له بإسبانيا، ولا بالهجرة، ولا بجني الفراولة.
المرأة التي بجانبها ليست زميلة في الغربة، بل سكريبت تتابع المشاهد، ويمكن ملاحظة خيط كرونومتر على عنقها .. يضبط توقيت المدة الزمنية لكل مشهد من متواليات العمل التلفزيوني أو السينمائي.
التفاصيل البصرية أيضا تكشف غياب أي مؤشر أو علامة واضحة على نشاط العمل الفلاحي، لا صناديق، لا جرارات، لا أكياس بلاستيكية … مجرد صورة .. لكنها خارج إطار الكاميرا وربما من تصوير فوتوغراف بلاطو التصوير.
مسار فاطمة عاطف بعيدا عن الإشاعة..
فاطمة عاطف ليست فقط ممثلة، ومن يعرفها جيدا يعي ويعلم أنها موظفة بوزارة الثقافة، تشتغل بمكناس، وتتقاضى أجرا ثابتا يضمن لها توازنا ماديا واجتماعيا.
مسارها الفني مستمر .. كانت حاضرة في المسرح، وفي الدراما، كما شاركت مؤخرا في فيلم “أبي لم يمت” للمخرج عادل الفاضلي، حيث قدمت دور “شيخة” ترافق طفلا في رحلة بحث عن والده.
حسب الصورة هي ليست ضحية ولا حالة إنسانية تستحق الشفقة الرقمية، بل فنانة تعرف معنى المهنة وتفصل بين الحياة الواقعية وما تفرضه متطلبات الأدوار التمثيلية.
حين تصبح الصورة حكاية جاهزة !!
لماذا زاغت الصورة عن سياقها الحقيقي وزاغت معها التعليقات !؟.
لماذا صدق كثيرون أن عاطف هاجرت للعمل في حقول الفراولة !؟..
الجواب.. لأننا نعيش زمنا مشبعا بالاستعداد للتأويل والطاقة السلبية .. صورة في حقل تكفي لتزرع وسط أرض خصبة، خطابات التدهور والتهميش وبذور الأحكام الجاهزة.
في عالم السوشيال ميديا، لا حاجة للتحقيق، ولا للمصدر، يكفي أن يبدو الخبر مثيرا، وأن يخدم خطة سردية مُسبقة، ليصبح كل إدعاء بدون علم، قابلا للتصديق والانتشار.
أما فاطمة عاطف، فقد وجدت نفسها داخل حكاية لم تكتبها ولم يكتبها سيناريست في فيلم وثائقي تسجيلي عن سيرتها الذاتية .. قد تكون هذه القصة لم تسبب ضررا واضحا لفاطمة عاطف خصوصا بعد تصحيح الخبر وتصويبه، لكنها عاشت تبعاتها مرغمة !!!.
من يقطف من؟
السؤال الحقيقي ليس على كل حال :
هل فاطمة عاطف من خلال الصورة كانت تعمل في الفلاحة ضمن نشاط قطف الفراولة في الواقع !؟ ..
بل : من يقطف ماذا وأين وكيف ومتى !!؟.
هل الفنان يقطف رزقه من فنه عبر الصورة !؟ ..
أم أن مواقع التواصل تقطف صورته وتعيد تشكيلها كما تشاء !؟.
في حالة صورة فاطمة عاطف في حقل الفراولة، تم اقتطاف صورة، وإلباسها قصة معينة، وتسويقها كحقيقة، دون إذن، ودون تحقق.
وهكذا، تحولت لحظة من كواليس التصوير إلى صدمة رقمية، تعيد طرح السؤال الذي نطرحه هنا دائما :
ما الفرق بين الواقع وما تصنعه المواقع !؟.
لعل فاطمة، بوجهها الهادئ، علمتنا دون أن تقصد، ان أخطر الأشياء ليست الإشاعة نفسها، بل الأثر الذي تتركه حين لا تستأذن، ولا تعتذر.
في زمن الفايسبوك، لم يعد المحتوى يحتاج إلى إخراج أو سيناريو، فقط صورة، و”كليك”، ليبدأ مسلسل جديد بعنوان :
” صدقني .. الخبر منتشر في مواقع التواصل الاجتماعي !!”.