الواقع والمواقع … سلسلة مقالات ننشرها حصريا في جريدة “ديريكت بريس”، للتسلية والترفيه وأيضا للتوعية والتثقيف. نرصد من خلالها تفاصيل حدث خلق ضجة اعلامية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لنتتبع تأثيره على ردود أفعال المواطنين وصناع القرار في العديد من دول العالم.
بقلم : رشيد صفـَـر
الحلقة 28 : الكوميدي إيكو .. من أواني المطبخ إلى الشهرة !!!
انطلق الكوميدي عبد الرحمان أوعابد، المعروف بـ”إيكو”، من مواقع التواصل الاجتماعي بين الأواني المنزلية في المطبخ، نحو خشبة المسرح في عروض فردية و بعد ذلك حقق النجومية بفضل تفرده في أسلوب الإضحاك بالتقليد والارتجال والغناء والبارودي، لكنه وجد نفسه ذات سهرة تلفزيونية في قلب زوبعة رقمية، بسبب سكيتش اعتُبر مسيئا للأمازيغ.
كيف صنع “إيكو” شهرته ؟.
ما دور مواقع التواصل الاجتماعي في صعوده وتعثّره ؟.
وكيف تحوّلت نكتة عابرة إلى قضية رأي عام ؟.
مراكش.. أرض البهجة وبداية الحلم
في مدينة مراكش، حيث النكتة تسري في الأجواء كجزء من الهوية الثقافية، وحيث “الطقيطقات” أو الدقة المراكشية تصنع إيقاع الحياة، ولد ونشأ الكوميدي عبد الرحمان أوعابد، المعروف باللقب الفني الرنان “إيكو”.
كانت الكوميديا تسكنه منذ صغره، وكان يجد في تقليد الأصوات وإعادة تقديم الأغاني بأسلوب ساخر وسيلة للترفيه عن أصدقائه وأفراد عائلته. ورغم أنه كان يغني في الأعراس بين الفينة والأخرى، إلا أن عالم الاحتراف في مجال الكوميديا كان متوقعا .. لكن مع وقف التنفيذ، كانت مواقع التواصل الاجتماعي المعبر نحو الشهرة، لكن كانت أيضا بالنسبة له مسرح “حادثة سير فنية” في سكيتش “مول الحانوت” على القناة الثانية والذي اتهم فيه بالإساءة للأمازيغ، و جر عليه غضب الجمهور و وابل من العبارات القدحية والشتائم، التي أثرت في نفسيته كثيرا، وجعلته يصرح بقرار اعتزال الضحك ومغادرة الميدان الفني.
إيكو “لقب صوتي” ..
يحمل الكوميدي المغربي عبد الرحمان أوعابد لقب “إيكو”، المستوحى من العبارة الفرنسية “Eko” التي تعني “صدى الصوت”، وهو لقب ارتبط ببداياته الفنية حين كان يستخدم ملعقة صغيرة كميكروفون، مرددا عبارات مثل “أي أي… آه آه” بطريقة تحاكي الصدى، مما شكّل أول قطرة من قطرات انطلاقه نحو عالم بحر الكوميديا، أصبح “إيكو” اسما لامعا بفضل أسلوبه الفريد الذي يقوم على العفوية، التفاعل مع الجمهور، وتقليد الأصوات واللهجات المغربية بطريقة مرحة مع إتقانه لفن الباروديا.
لكن خلافا للكوميديين الذين يركزون على النقد السياسي أو المواضيع الجادة، اختار “إيكو” أن يستلهم مواقفه الكوميدية من تفاصيل الحياة اليومية البسيطة، مانحا لها بعدا حيويا، من هذا الأسلوب الجماهيري السلس، إلى جانب حضوره الركحي القوي وحركاته الجسدية الطريفة، تشكلت مقومات فنية نادرة جعلته منذ أول ظهور من أبرز وجوه الكوميديا المغربية الحديثة، إذ استطاع أن يحقق نجاحا واسعا داخل المغرب وخارجه.
من المطبخ إلى مواقع التواصل..
لم يكن طريق الشهرة ممهدا، ومفروشا بالزرابي والورود للشاب المراكشي عبد الرحمان، لكنه صنع فرصته بنفسه، حيث بدأ في تصوير فيديوهات فكاهية داخل المطبخ، مستخدما الأواني المنزلية كآلات إيقاعية، حيث كان يعيد غناء أشهر الأغاني بأسلوب “البارودي”، مع تغيير الكلمات بأخرى هزلية بنبرة “تمراكشيت” والاحتفاظ بالألحان الأصلية.
كان صديق مقرب منه يحثه على نشر هذه المقاطع على الإنترنت، لكن إيكو كان يمتنع عن التعميم والنشر والمشاركة مع رواد الإنترنت، مخبرا صديقه أنه يفكر في خطة احترافية للشهرة. ومع ذلك، أطل على الجمهور عبر فيديوهات عبر الويب انتشرت بشكل واسع، على يوتيوب وفايسبوك، فوجد نفسه فجأة حديث رواد مواقع التواصل الاجتماعي.
الاتصال بحسن الفذ .. أول خطوة نحو التلفزيون.
لم يكتفِ إيكو بالشهرة الرقمية، بل قرر أن يأخذ المبادرة بنفسه، واتصل بالكوميدي الشهير حسن الفذ، معبّرا عن رغبته في العمل ضمن فريقه الفني. لم يكن الأمر سهلا، لكنه نجح في الحصول على أدوار صغيرة في أعمال الفذ الكوميدية، حيث بدأ في فهم إيقاع العمل التلفزيوني، والانتقال من العفوية المطلقة إلى الاحترافية. إلى جانب التمثيل، واصل إيكو تقديم مقاطع غنائية ساخرة، من بينها محاكاة غناء الطرب الأندلسي بأسلوب كوميدي، ما جعله يثبت نفسه كشخصية فريدة تجمع بين الغناء والفكاهة مع تقليد العديد من الألوان الموسقية الأصيلة وإتقان الضرب على الدربوكة فهو “درابكي” بدرجة “رقايقي”.
سهرة رأس السنة 2012 بالقناة الثانية.
رغم نجاحه التدريجي، جاءت النقلة النوعية، عندما تلقى دعوة من الإعلامي عماد النتيفي للمشاركة في سهرة رأس السنة 2012 على القناة الثانية 2m soread.
كانت هذه الفرصة المثالية لإثبات موهبته أمام جمهور الشاشة الصغيرة و دخل إيكو لبيوت العائلات المغربية عبر نافذة شاشة “دوزيم”.
خلال السهرة، قدم إيكو نسخة بارودية ساخرة من أغنية المغنية العالمية شاكيرا الكولومبية، محتفظا باللحن والإيقاع، لكنه غير الكلمات بالكامل على طريقته، وغناها بشكل مباشر مع الفرقة الموسيقية وعناصر الكورال، ودمج داخل الأغنية كلمات تجعلك تتخيل أن شاكيرا تتغنى بـ “الطوبيس” أي الحافلة والأكلة الشعبية المراكشية “باولو”، التي يتم تحضيرها بلحم الجمل و الكبد و”المجبنة”، ويمكن أن تتضمن أيضا “رأس البقر” و“الكرداس”، مع تنسيمها بالتوابل المغربية التقليدية.
أغنية “واكا واكا” قدمتها شاكيرا، بالتعاون مع فرقة فريشلي جراوند الجنوب أفريقية، وأصدرتها شركة إيبك ريكوردز في 7 مايو 2010 ، كأغنية رسمية لكأس العالم لكرة القدم 2010، التي أقيمت في جنوب أفريقيا، وأعادها إيكو على طريقة البارودي، لكن أكيد أنه كان يغنيها للتنذر والضحك في المنزل قرب المطبخ و وسط العائلة و خلال السمر مع الأصدقاء.
في سهرة رأس السنة بالقناة الثانية تمكن إيكو من إضحاك المشاهدين ونال إعجابهم، حيث ظهر بطريقة حيوية وتنقل بحركات مدروسة و رقصات سريعة ومتناغمة، و أداء صوتي رائع عصي حتى على بعض المؤدين الذين يحترفون الغناء، كما قدم أيضا في تلك السهرة التلفزيونية فقرة ثانية، عبارة عن سكيتش كوميدي حول العلبة الصوتية للهاتف النقال، لعب فيه على التناقضات الساخرة التي تواجه المستخدمين.
من التلفزيون إلى العروض المباشرة.. الاستقلال الفني..
بعد تجربته مع حسن الفذ، لم يستمر إيكو في الاشتغال معه لفترة طويلة، بل قرر أن يشق طريقه بنفسه، متجها نحو تقديم عروض فكاهية في القاعات الكبرى. بدأ أولا مع فرقة الكوميدي طاليس، لكنه سرعان ما استقل بعمله، وبدأ يقدم عروضه الفردية داخل المغرب وخارجه، خاصة مع الجالية المغربية في أوروبا، حيث حققت حفلاته نجاحا كبيرا.
سكيتش مول الحانوت وغضب المواقع !!!
في ليلة رأس السنة، وبالضبط بتاريخ 31 دجنبر 2015، بثت القناة الثانية فقرة كوميدية للفنان عبد الرحمان أوعابد “إيكو”، بعنوان “مول الحانوت”، كان هذا العرض الذي جاء بطلب من إدارة القناة لتقديم فقرة مختصرة، عن عرضه الكوميدي الأصلي، قد تحول في غفلة من إدارة القناة الثانية وإيكو، إلى كرة لهب رقمية بعد أن انطفأت أنوار السهرة.
إيكو الذي حاول تسليط الضوء بنبرة تهكم على وضعية البقال التقليدي، وجد نفسه وسط عاصفة من التأويلات والاتهامات، بعدما رأى البعض أن عرضه ينطوي على إساءة للأمازيغ وانتقاصا من من رافد من روافد الهوية المغربية الأصيلة، فكان نصيبه كما من السب والشتم امتد إلى أسرته، وما أثار قلقه وحز في نفسه كثيرا هو أن بعض التعليقات الخارجة عن الأدب والنقد الرزين، تعرضت لأعز إنسانة في حياته وهي والدته التي يحبها كثيرا، وهو الأمر الذي لا يكمن قبوله، مما دفعه إلى التفكير جديا في مغادرة الميدان الفني والاعتزال.
التبريرات … مول الحانوت سكيتش بريء !!
بعد التداعيات التي خلقها الهجوم الكاسح على إيكو وسكيتش مول الحانوت، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، صرح حينها مصدر مقرب منه، أن نية “عبد الرحمان أوعابد” لم تكن أبدا إهانة أي مكون من مكونات الهوية المغربية، بل بالعكس – أضافت التبريرات – كان يسعى بحسن نية لتكريم “مول الحانوت” باعتباره فاعلا اجتماعيا أساسيا في الأحياء الشعبية، ظل يسهر على تقريب ضروريات العيش من السكان البسطاء.
لم تتأخر موجة دعم ومساندة إيكو في تلك الظرفية التي كادت أن تجهز على مسيرته الفنية، حيث عبر حينها المسرحي “عمر جدلي”، الكاتب العام للنقابة المغربية لمحترفي المسرح بجهة مراكش، عن أسفه لما وصفه بالهجوم غير المبرر على فنان شاب موهوب، داعيا “إيكو” إلى عدم الالتفات إلى ما وصفه “جدلي” بالتفاهات الرقمية، ومطالبا في الآن نفسه الهيئات الأمازيغية باتباع المساطر القانونية، إن كانت ترى أن هناك إساءة، عوض التجييش عبر الفيسبوك.
الاعتذار من شيم الكبار
نشر إيكو شريط اعتذار مباشر على صفحته بالصوت والصورة بمواقع التواصل الاجتماعي، قال فيه إنه لم يكن يوما عدوا لثقافة ينتمي إليها من جذوره، وأن تقليده للهجات أو الشخصيات، كان دوما نابعا من الحب والإحترام. وأوضح أن فكرة “مول الحانوت” لم تكن من بنات أفكاره وحده، بل جاءت بناء على طلب بقال حيه، الذي يشاركه لحظات عفوية للضحك دون نية الإساءة.
لقد أثبتت هذه القضية أن الكوميديا، مهما كانت بريئة، قد تتحول إلى محاكمة مفتوحة في فضاءات رقمية لا تعرف سياق النوايا ولا تقرأ ما بين السطور، إذ يمكن أن تشكل صداما مع الحساسيات الثقافية أو الهوياتية، مما جعل إيكو يفكر جيدا، أنه إذ أراد الاستمرار في الأبحار داخل سفينة الضحك، فعليه أن يُحسن التجديف وسط أمواج التأويلات وأن يتحمّل العواصف الرقمية، لأن المايكروفون، حين يتم إمساكه بين أصابع اليد وتقريبه للفم لإطلاق الكلام والنكت والتهكم في عصر مواقع التواصل، يصبح سيفا ذا حدين، إذ يجب أن يكون الفنان أكثر حذرا وانتقائية في اختياراته الفنية، فالضحك، رغم أنه دواء القلوب، قد يصبح في لحظة معينة سببا للاتهام والاحتراق الرمزي، إذا لم يُراع فيه تعدد المرجعيات الفكرية والإيديولوجية والعرقية داخل المجتمعات.
العودة بعد قضية “مول الحانوت”.
عاد إيكو للساحة الفنية والاستمرار في مسيرة الإضحاك والكوميديا، مع الاحتياط من المواضيع التي يمكن أن تجلب له المشاكل والانتقادات السلبية والهجوم عبر مواقع التواصل الاجتماعي بالتعليقات المسيئة لمسيرته الفنية، وكانت عودته متوقعة، رغم حادثة السير الفنية “مول الحانوت”، وكيف لا يعود وهو لا يزال في بداية المشوار، وله مؤهلات قل نظيرها على مستوى فن الضحك، إذ إضافة للنكت والتقليد والغناء، يختزن أوركسترا من آلات العزف والإيقاع في لسانه بشكل مبهر، وهي أبرز مؤهلاته في الأداء لممارسة فن الضحك في أسرع لحظة، دون إعداد أو تهييء سابق، فهذه المؤهلات تجعله يجيد الارتجال أينما حل وارتحل، إذ يبدو أنه خلال البداية في هذا المجال، لم يكن يعرف عذاب الكتابة والبحث عن المواضيع والأسلوب وكتابة الخطوط العريضة للسكيتش وتطويره ومعالجته، فقد كان إيكو ولا يزال من الفنانين الكوميديين الذين يستطيعون تنشيط الأجواء في الحفلات الخاصة والعامة في لمح البصر، فهو كوميدي جاهز متى تم الاتصال به، عكس أغلب الكوميديين الذين يمضون أوقاتا وأياما طويلة، للبحث عن الموضوع وكتابته وإضافة توابل الضحك والتدريب لمدة طويلة قبل الوقوف أمام الكاميرا أو أمام الجمهور فوق الركح، لكن الآن إيكو لا يكون دائما متاحا لمتعهدي الحفلات والبرامج التلفزيونية والمهرجانات لكثرة الالتزامات والمواعيد، وأيضا لأن “الكاشي” أي التعويض ارتفع أيضا، فثمن عروض البداية وتسجيل الحضور، يتضاعف بشكل كبير بعد تحقيق النجومية، وهو أمر معروف في عالم التسويق الفني.
مراكش للضحك.. القفزة الكبرى
اللحظة الفارقة في مسيرة إيكو، كانت هي الحضور الوازن في مهرجان “مراكش للضحك”، الذي يشرف عليه الكوميدي الفرنسي-المغربي “جمال الدبوز”.
كانت هذه التجربة فرصة ذهبية وضعته في مصاف الكوميديين الكبار، خاصة بعد نجاحه في تقديم فقرات كوميدية أمام جمهور ضخم. بعد ذلك، لم يعد إيكو مجرد مشارك في المهرجان، بل أصبح المقدم الرسمي لبعض العروض التي تجمع كبار الكوميديين المغاربة وضيوفا من خارج المغرب، وهو ما عزز مكانته في المشهد الكوميدي.
الضحك من أجل الإضحاك بعيدا عن المواضيع السياسية..
خلال جولة عرضه الفكاهي “الحب” في مارس 2024، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي حوارا له مع موقع إلكتروني، عبّر فيه إيكو عن سعادته بالأجواء التي توفرها العروض المباشرة حيث يتيح له الارتجال والتفاعل المباشر مع الجمهور. قال: “عندما يحضر الناس لعروضي المباشرة يكون الأمر مختلفا جدا، لأن لدي مساحة خاصة من الوقت، وتكون هناك مواقف ارتجالية، وأغني وأضحك الجمهور في لقاء مباشر، وهذا أفضل”.
وفيما يتعلق بالكوميديا السياسية، أشار إيكو إلى أنه لا يملك خلفية سياسية قوية في حياته اليومية، فهو يعتمد على واقعيته وتجربته العادية، وقال: “أنا حياتي عادية، أتجول في دروب المدينة القديمة، وأذهب عند البقال وأدخل للأسواق الشعبية. وكذلك الفنادق وغيرها، فأجمع ما يخدم موهبتي جيدا. أما السياسة فلا ولن أعرف تقديمها”.
إيكو.. نموذج لصناعة الذات في عصر السوشيال ميديا.
ما يميز قصة إيكو هو أنه لم ينتظر الفرصة، بل صنعها بنفسه. بدأ من فيديوهات هاوية، ثم شق طريقه نحو التلفزيون، مستفيدا من قوة مواقع التواصل الاجتماعي في نشر اسمه. اليوم، يُعد من بين أبرز الكوميديين في المغرب، يجمع بين العروض المباشرة والخاصة والمهرجانات، ويظل مثالا حيا على كيف يمكن للموهبة والإصرار أن يحولا مقاطع بسيطة إلى مسيرة فنية ناجحة.
يستمر إيكو في تقديم عروضه الفكاهية مع التركيز على الضحك لأجل الأضحاك والتجارب اليومية للمغاربة، ويعد اليوم مم الأسماء الأكثر تأثيرا في الساحة الفنية المغربية على مستوى الكوميديا البسيطة لكن يملك أدوات الإضحاك بسبب روحه المرحة و”تمراكشيت” أي لهجة البهجة والسرور والاحتفالية وتقليد الأصوات والمغنين والباروديا.
مسيرة إيكو تجسد واحدة من أنجح قصص صناعة الذات في زمن السوشيال ميديا، إذ انطلقت من مطبخ متواضع، قبل أن تعانق أضواء الشاشة الصغيرة و المهرجانات الكبرى، في تجربة توضح أن الإصرار والموهبة كفيلان بتحويل أبسط البدايات إلى إنجازات عظيمة في مجال الفن الضاحك.