“الواقع والمواقع “… سلسلة مقالات ننشرها حصريا في جريدة “ديريكت بريس” للتسلية والترفيه وأيضا للتوعية والتثقيف، حيث نرصد من خلالها تفاصيل حدث خلق ضجة إعلامية كبيرة، انطلاقا من مواقع التواصل الاجتماعي، لنتتبع خيوط تأثيره على ردود أفعال المواطنين وصناع القرار في العديد من دول العالم.
بقلم : رشيد صفـَـر
الحلقة 16 : محاكمة مؤدي أغنية “بوسة وتعنيكة وطيحة في البحر”.
في زمن “الترند”، لم يعد الخبر يصنع الجدل، بل أصبح الجدل هو من يصنع الخبر. وما حدث في حي بئر الشفاء بمدينة طنجة خلال احتفالات عيد الفطر، ليس سوى دليلا جديدا على أن مواقع التواصل الاجتماعي لم تعد مجرد فضاء للنقاش، بل باتت قوة ضاغطة قادرة على تحريك القضاء وإعادة تشكيل الرأي العام في ساعات قليلة.
فكيف انتقل حدث تقديم شاب لأغنية في ساحة عمومية أمام أطفال ومراهقين رددوا معه كلماتها بعفوية، من لحظة فرح في حفل شعبي إلى ملف ساخن تحت مجهر المجتمع والقانون ؟.
وما الدور الذي لعبه الضغط الرقمي في تحويل حادثة محلية إلى قضية رأي عام بامتياز ؟.
بداية القصة
في يوم عيد الفطر .. الاثنين 1 شوال 1446 هجرية الموافق 31 مارس 2025، كان حي بئر الشفاء في مدينة طنجة، يعج بالاحتفالات وأجواء الفرح المعتادة. الأطفال يلعبون في الشوارع، والعائلات تلتقي وتحتفل بقدوم العيد، كما هو الحال في معظم الأحياء المغربية. لكن في هذه المناسبة، كان هناك حدث غير عادي يلوح في الأفق.
اجتمع العشرات من الأطفال والشباب بساحة صغيرة بالحي المذكور، حول مغني شاب معروف في المنطقة. بدأ يغني أغنية، لم تكن سوى مزيج من الإيقاع الصاخب والكلمات الجريئة التي لم تخطر على بال أحد حينها أن تكون موضع جدل في مثل هذه المناسبة.
كلمات الأغنية التي تروج لـ السكر والانحلال الأخلاقي، ترددت في الهواء وسط الحشود، ولم يكن يدرك هذا المغني الشاب أن تلك اللحظات ستؤدي في النهاية إلى محاكمة قضائية تحت ضغط الرأي العام الرقمي.
كلمات الأغنية.. عبارات صادمة في قالب احتفالي.
الأغنية التي رددها المغني تضمنت عبارات مثيرة للجدل مثل :
“بوسة وتعنيكة وطيحة فالبحر” – إيحاءات غير لائقة يتم تقديمها في سياق احتفالي، تدعو للتقبيل والعناق والارتماء في البحر ..
“أنا نضرب الطاسة، أنا نسكر وننسى” – ترويج واضح للانحراف بشرب الخمر، وكأنه سلوك طبيعي ومحبذ.
هذه العبارات، التي نطق بها المغني وسايره في ترديدها أطفال لا يملكون القدرة على التمييز بين الترفيه والإفساد، دفعت جمعيات حقوق الطفل إلى التنديد بالواقعة، معتبرة أن الواقعة تكشف عن تهاون في حماية الطفولة من التأثيرات السلبية للثقافة الاستهلاكية والهابطة.
عندما يحكم “الترند”.. كيف تحول الفيديو إلى قضية رأي عام؟
الفيديو الذي لم تتجاوز مدته دقائق معدودة انتشر بسرعة النار في الهشيم، ولم يكن مجرد تسجيل عابر، بل أصبح مادة دسمة للنقاش العام.
دخلت الصفحات الكبرى والمؤثرون على الخط، وبدأت التعليقات تتوالى بشكل قوي وحاد، تتراوح بين السخرية المبطنة والأسف العميق. ومع تصاعد الغضب، أطلق رواد المنصات الرقمية حملة من النداءات الغاضبة، مطالبين بـ محاسبة المغني على ما اعتبروه تجاوزا خطيرا، فارتفعت الأصوات المطالبة بالتحرك السريع. ومع كل تغريدة وتدوينة، تضخمت القضية لتنتقل من مجرد جدل على الإنترنت إلى عناوين الصحف ونشرات الأخبار، مما جعلها قضية رأي عام.
في يوم الخميس 3 أبريل 2025، أي بعد أربعة أيام من تاريخ الحدث، أمرت النيابة العامة بطنجة باستدعاء المغني الشاب، مباشرة بعد تصاعد ردود الفعل الغاضبة، حيث استمعت عناصر الشرطة القضائية إليه في نفس اليوم، وهو إجراء لم يكن ليحدث لولا انتشار الحدث عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وقد قررت النيابة متابعة المغني في حالة سراح، مع تحديد موعد لمثوله أمام وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية.
الضغط الرقمي.. حين تصبح مواقع التواصل سلطة غير رسمية.
قبل عقود، وقبل انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، كان مثل هذا الحادث سيمر بصمت، وربما لن يثير سوى ردود فعل محلية محدودة، لكن اليوم، أي واقعة يمكن أن تتحول إلى قضية رأي عام خلال ساعات فقط، بفضل سرعة انتشار المعلومات وضغط المستخدمين، ففي هذا الحادث تحديدا، كان لموجة الغضب الرقمي الدور الحاسم في تحريك الأجهزة الأمنية والقضائية.
هل أصبحت الفضائح وقود الشهرة؟
رغم الإدانات الواسعة، لا يمكن إنكار أن هذه الحادثة جلبت للمغني شهرة غير مسبوقة. الفيديو الذي تسبب في متابعته قضائيا رفعه إلى صدارة “الترند”، وربما سيستثمر ذلك لاحقا في مزيد من الأعمال المثيرة للجدل.
وهنا يظهر السؤال المقلق : هل باتت مواقع التواصل تعزز منطق “الشهرة السلبية”؟ وهل الضغط الرقمي دائما في خدمة الأخلاق والقيم، أم أنه في بعض الأحيان يتحول إلى أداة تعزز التفاهة بدل ردعها؟.
بين حكم القانون وحكم الجمهور.. كيف ستنتهي القصة؟
مع انتظار مثول المغني أمام المحكمة، يبقى الملف مفتوحا على كل الاحتمالات. لكن الأكيد أن القضية تجاوزت حدودها القانونية، وأصبحت نموذجا جديدا لكيفية صناعة الرأي العام في عصر الرقمنة.
فهل سيكون هذا الجدل درسا يعيد ضبط إيقاع “الفن السريع”؟ أم أننا سننتقل بعد أسابيع قليلة، إلى “ترند” جديد بنفس الأسلوب، ونفس التفاعل، ونفس النهاية !؟.