في عصر التطور التكنولوجي والاتصال الفوري، لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي مجرد منصات للتفاعل بين أفراد العائلة والأصدقاء وزملاء العمل فقط، بل أصبحت فضاءً لصناعة وتشكيل الرأي العام، وإشعال النقاشات الكبرى، والتأثير في القرارات السياسية. فقد تتحول تغريدة أو مقطع فيديو قصير إلى قضية وطنية أو أزمة دولية.
“الواقع والمواقع”… سلسلة مقالات ننشرها حصريًا في جريدة ديريكت بريس، تجمع بين التسلية والترفيه، وأيضًا التوعية والتثقيف. من خلالها، نسلط الضوء على أحداث صنعت ضجة إعلامية كبرى انطلاقًا من مواقع التواصل الاجتماعي، لنستعرض تأثيرها على الرأي العام وصناع القرار في مختلف أنحاء العالم.
✍️ بقلم: رشيد صفــَـر
الواقع والمواقع
الحلقة 4 : عبد الإله بائع السردين.. هل يجتمع النضال مع البوز؟
في مدينة البهجة، حيث تمتزج روائح التوابل والمملحات والمستملحات بصخب الأسواق الشعبية، حقق بائع الحوت الشاب عبد الإله، صاحب الابتسامة الحزينة، شهرة واسعة بعد نشره فيديوهات على منصة “تيكتوك”، يعلن فيها عن بيع السردين بسعر 5 دراهم للكيلوغرام، رغم أن ثمن السردين يتجاوز 20 درهما للكيلوغرام، مما خلق ضجة كبيرة، جعلت عبد الإله وأسماكه وثمنها حديث الشارع ومواقع التواصل الاجتماعي.
لكن هل فعلا الثمن المعقول للسردين هو 5 دراهم للكيلوغرام؟
هل جاءت مبادرة عبد الإله للفت الانتباه إلى المضاربين في سوق السمك أم إلى حسابه على “تيكتوك”؟
تسعيرة السردين بين الواقع والجدل
من الناحية الاقتصادية، يعتمد السعر المعقول للسلع الاستهلاكية على عدة عوامل، مثل تكلفة الإنتاج والنقل ونسبة الطلب في السوق، لذلك فإن بيع السردين بسعر 5 دراهم للكيلوغرام قد يكون غير مستدام إذا كانت مصاريف الصيد والنقل مرتفعة، مما يجعل هذا السعر استثناء وليس قاعدة. ومع ذلك، قد يكون السعر منخفضا بشكل غير عادل بالنسبة للبائعين الآخرين الذين يواجهون تكاليف أخرى، ككراء محل بثمن غال أو تشغيل مساعد إلى آخره.
سنتفق جميعا على أن مبادرة عبد الإله، هدفت إلى تسليط الضوء على المضاربة في سوق السمك وأسعار السردين المبالغ فيها، مما دفعه إلى اتخاذ خطوة بيع السمك بسعر منخفض، لكن استخدامه لوسائل التواصل الاجتماعي، وخصوصا “تيكتوك”، قد يكون أيضا محاولة منه لتوسيع قاعدة متابعيه والتفاعل مع جمهور أكبر، إذ يمكن القول إن هناك عنصرين متداخلين : محاولة توعية المستهلك بغلاء ثمن السردين مع الاستفادة من الانتشار الرقمي.
بداية القصة
في خطوة جريئة، قرر عبد الإله بيع السردين بسعر 5 دراهم للكيلوغرام، متحديا الأسعار التي يفرضها الوسطاء، حيث أكد في مقطع فيديو، انتشر بسرعة قياسية أنه يسعى إلى توفير السمك للمواطنين في مراكش وجميع مناطق البلاد بسعر منخفض جدا، معتبرا أن الأسعار المرتفعة لا مبرر لها.
تصدرت مبادرته “ترند” منصات التواصل الاجتماعي، وسرعان ما تحول الجدل إلى نقاش أوسع، حول دور الرقابة في السوق و شفافية المعاملات و”شناقة السمك” على غرار “شناقة الخروف”.
أثناء تواجد عبد الإله في ميناء الدار البيضاء لاقتناء الحوت كما هي العادة، نشرت الكثير من وسائل الإعلام والمواقع خبر اعتقاله، وقيل أن تجارا بالميناء تشاجروا معه، وذهبت التأويلات إلى حد الظن بأن ساعة الانتقام قد بدأت، لكن في الحقيقة كان عبد الإله يلتقط فيديو بهاتفه داخل الميناء، فاعترض التجار على ذلك، وكانوا على حق، فلا يمكن تصوير أشخاص دون موافقتهم، لكن جعلت هذه الحادثة القصة تأخذ منحى آخر، حيث بدأ الحديث يدور حول قمع حرية التعبير، و خوف المضاربين من دور الصورة كأداة للضغط في العصر الرقمي. وبعد الإفراج عن عبد الإله، ذابت كل التحليلات في ماء البحر المالح.
لم تتوقف الحكاية عند اعتقال “نجم السردين” في الميناء، ففي 20 فبراير 2025، زار وفد من لجنة المراقبة التابعة للسلطات المحلية محل عبد الإله في مراكش، و أثناء الزيارة، تم التأكد من مدى التزامه بالقوانين الصحية وفحص جودة المنتجات التي يعرضها، وفي خطوة مفاجئة، تم إغلاق المحل مؤقتا بسبب بعض المخالفات البسيطة، مما جعل بعض الأصوات تجزم بأن عبد الإله يتعرض للتضييق لأنه كشف المستور، فانتشرت تعليقات ساخرة على مواقع التواصل، من بينها: “لجنة المراقبة عوض أن تفرض خفض سعر السردين خرجت لكي تأمر عبد الإله برفع سعر سمك الفقراء”. لكن لم تمر سوى أيام قليلة حتى أُعيد فتح المحل بعد تصحيح الوضع مع الجهات المعنية.
بعد هذه الأحداث، أصبح “الجابوني”، وهو لقب عبد الإله، حديث الجميع، وحققت فيديوهاته مشاهدات عالية، لقد لبس ثوب وأسلوب المناضلين والأبطال، كان ينظر للكاميرا بابتسامة النجوم ويقول: “لا للوسطاء في وجه البسطاء”.
في 26 فبراير، استقبل والي مراكش عبد الإله، مما أعطى القصة أبعادا جديدة، حيث نشرت العديد من المنابر الإعلامية أن اللقاء لم يكن مجرد اجتماع عابر، بل حمل رسالة واضحة إلى جميع الأطراف الفاعلة في القطاع، كما أشارت بعض التقارير إلى أن الوالي أعطى الضوء الأخضر لعبد الإله، لمواصلة عمله دون مشاكل، مما اعتبره البعض انتصارا لصاحب المبادئ، و رسالة قوية للمضاربين في السوق.
في ذروة الحكاية، كان عبد الإله يؤكد دائما أمام كاميرا الهاتف، أنه لم يكن يسعى سوى لتحقيق أرباح مشروعة من تجارته، مع رفع مستوى وعي الناس حول الأسعار الحقيقية للسمك.
بعد الضجة الإعلامية، أوضح عبد الإله لاحقا أن بيعه للسردين بسعر 5 دراهم للكيلوغرام كان خلال فترة شهدت انخفاضا في الأسعار، وأشار إلى أن الأسعار قد ترتفع أو تنخفض، بناء على العرض والطلب وعوامل أخرى تؤثر على السوق.
كشفت حكاية عبد الإله، عن كيفية تأثير المبادرات الفردية عبر الإنترنت في توجيه الرأي العام نحو قضايا تمس الحياة، وتحرك النقاش حول المسكوت عنه في العديد من القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
في النهاية، سواء كان عبد الإله، صاحب الإبتسامة الحزينة، استغل خفض ثمن السردين لتحقيق البوز والحصول على مال من نسبة المشاهدة عبر الإنترنت، أو بدافع عفوي للدفاع عن جيوب المواطنين، تبقى قصته مثالا حيا على كيفية استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتسليط الضوء على قضايا تمس الحياة اليومية، ودور هذه المنصات في خلق نقاش عام قد يؤدي إلى تغيير حقيقي في التعامل مع قضية شائكة أو وضعية مزرية.