الواقع والمواقع … سلسلة مقالات ننشرها حصريا في جريدة “ديريكت بريس”، للتسلية والترفيه وأيضا للتوعية والتثقيف. نرصد من خلالها تفاصيل حدث خلق ضجة إعلامية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لنتتبع تأثيره على ردود أفعال المواطنين وصناع القرار في العديد من دول العالم.
بقلم : رشيد صفـَـر
الحلقة 31 : أوهام الدعاية الرقمية … “بشهادة كبار المؤثرين”..
في زمن تسكنه الصورة وتتحكم فيه الخوارزميات والنقرات، لم تعد الثقة تُمنح للخبرة، بل تُشترى من المؤثر، وتُباع مع كل تغليفة ساحرة وابتسامة ماكرة، انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي عبارة “بشهادة كبار المؤثرين” في غفلة من الفرد والمجتمع والجهات المسؤولة، وتحولت إلى أداة للتأثير، و واجهة لسلطة جديدة تُسَوّق الوهم بصورة عاطفية وشهادات مفبركة.
ترون في هواتفكم الذكية هذه الأيام ونحن في متم شهر ماي 2025، كيف ازدحمت المنصات الرقمية بحملات ترويجية تبدأ بجملة : “هذا المنتوج مُجرَّب بشهادة كبار المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي”، ويُرفق هذا الإعلان بصورة “سيلفي” مضاءة بعناية، يظهر فيها مؤثر أو مؤثرة وبين اليدين علبة مبهرة، لكنها في الحقيقة قد تكون علبة صفقة خاسرة، لا نفع فيها ولا براءة اختراع، فقط تغليف جذّاب وسيناريو محبوك.
منتوجات على رصيف الويب …
من كريم سحري يزيل البقع في 48 ساعة، إلى قهوة تذيب الشحوم أثناء النوم، مرورا بزيت ينبت الشعر يقدمه وصلته الإشهارية، أصلع ليس في رأسه شعرة أو في نفسه شعور بالخجل، وانتهاء بعسل مستورد من اللامكان، مستحضر من تذويب مربعات أو قوالب السكر الأبيض وفي قارورته صورة لنحلة لن تطير، بريئة مما يدعون، ومراهم من الصين تُسَوَّق على أنها من جبال ونباتات الأطلس، في تجن سافر على تلك الجبال الشامخة والنباتات العطرية.
الرسالة .. تجربة شخصية مزيفة، وتوصية مغلفة بلغة العاطفة، خالية من الدليل، ومجردة من المسؤولية.
من الخبير إلى المؤثر.. ومن الحُجّة إلى الحكاية.
في السابق، كان الخبير هو المصدر. كان الطبيب يتحدث عن الدواء، والمهندس عن الجهاز، والمختص في علم التغدية عن الغذاء. أما اليوم، فقد صار عدد المتابعين هو الشهادة الوحيدة المطلوبة، وصار أثر الهالة يُغني عن كل معيار، وتحول المؤثر إلى خليط من مسوّق وناصح وممثل بارع وموزّع في آن واحد.
هكذا دخلنا عصر الرأي المؤثَّر لا الرأي المؤسس، حيث لا فرق بين تجربة علمية أنجزت من طرف الخبراء المعتمدين وتجربة صُوّرت من طرف مؤثرين بثلاث زوايا، وبُثّت على “ستوريات” متتالية لإيهام المتلقي بصدق لا وجود له.
الإشهار المقنع .. تسويق يخرق القوانين..
القانون المغربي، مثل غيره من القوانين في العالم، يفرض أن يُصرّح المروّج بأن ما يعرضه هو إشهار مدفوع الأجر، حيث أن الفصل 18 من القانون 31.08 القاضي بتحديد تدابير لحماية المستهلك ينص على ضرورة إعلام المستهلك بوضوح إذا كان العرض يدخل في إطار إشهار تجاري، لكن، في سوق المؤثرين، يتم تمرير الإشهار على شكل توصيات وسيرة ذاتية لشخصية إلكترونية، دون أي تنبيه قانوني أو أخلاقي. هنا، تتحول الشهادة إلى فخ، والتوصية إلى تضليل والسيرة الذاتية إلى مقلب. فأغلب المستهلكين لا يعلمون أن ما يشاهدونه هو إعلان، ولا يعرفون أن المؤثر قبض مقابله، ولا يدركون أن المعلومة خالية من التحقق أو الخبرة، لكن بعض التعليقات أسفل المحتوى الرقمي الدعائي، قد تفضح الأساليب الغادرة وبعضها يحكي تجربته الخاصة خلال شراءه للمنتوج وتضرره منه أو اكتشاف انخداعه بعد الطلب والدفع، لكن بعد تصفح التعليقات، تجد أيضا عبارات أخرى تمدح المنتوج والمؤثر وتهدف إلى تكذيب الرأي المخالف.
خلف الواجهة.. تجارة ثقة عابرة ..
يستهدف هذا النوع من التسويق فئات ذات هشاشة معرفية أو عاطفية، فمن مراهق يبحث عن هوية رقمية، إلى امرأة أو شابة تحلم بجمال مثالي .. وهذا رجل قَلِق من فحولته أو ساعٍ للثقة في ذاته، و مواطن من الطبقة المتوسطة، يظن أنه عثر على عرض ذهبي في جولته عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
لكن في الحقيقة، ما يتم تقديمه ليس سوى صفقة خادعة مغلفة بعبارة مطمئنة، فيها وعود كبيرة، ونتائج صغيرة، وسلع خفيّة الأثر، مجهولة المصدر و التركيبة، وقد تكون خطيرة التبعات، حاملة للأضرار.
المؤثر التاجر .. والمستهلك الضحية
لقد صار المؤثر تاجر ثقة لا يخضع لضوابط السلامة، ولا يحاسب عند الضرر. يروج لمستحضر للتبييض في الأسبوع الأول، ثم لمستحضر لإزالة آثاره في الأسبوع الثاني، ويطلب منك أن تثق به في الحالتين.
هذا التسويق الماكر لا يحمل علامة إشهار، لكنه يُمارس كل أساليب الدعاية الخادعة.
يرافقه خطاب مطَمْئن لا يَذكر المضاعفات، ولا يشير إلى الترخيص، ولا يوضح شروط الاستخدام، ولا يمكن مع هذا الجشع سوى القول : فَكّر قبل أن تنخدع .. ولا تشترِ وهم الكاميرا، فالمنطق السليم يفرض التساؤل : هل هذا المنتج مرخّص من وزارة الصحة أو منظمة الصحة العالمية والمختبرات العلمية ؟ .. وهل يتوفر على شهادة مطابقة للمعايير ؟ .. وهل من أبحاث مستقلة وذات مصداقية تؤكد فعاليته ؟ .. و هل المؤثر صرّح بأن ما يقوم به هو مجرد إعلان مدفوع الثمن؟.
إن عدم البحث عن أجابة عن هذه الأسئلة هو دعوة غير مباشرة للاستهلاك العشوائي، وفتح للباب أمام خاصية التسويق تحت غطاء الإعجاب والثقة دون ضمان الجودة.
بين سلطة الكاميرا و القانون …
نحن أمام لحظة مفصلية في علاقة المواطن بالمعلومة الاستهلاكية. إما أن نؤسس لثقافة التحقق والمساءلة، أو نستسلم لسحر الصورة وخداع التأثير.
إما أن نطلب توضيح الإشهار في كل منشور مؤثر، أو نترك الكاميرا تصنع لنا قناعات زائفة، ونجوما تُسَوّق لمعلومات مطروزة من خيوط الأكاذيب.
القانون موجود، لكنه ضعيف التفعيل، والمستهلك حاضر، لكن المنتوج غير مضمون الجودة والسلامة غير مؤكدة، والمؤثرون أقوياء، لأن المستهلكين والمتابعين، هم الذين يمنحونهم الثقة دون شرط، والمتابعة دون تحقق.
الواقع والمواقع يلتقيان حينا، ويتباعدان أحيانا، والتحقق من صدق ما يُعرض بينهما، أهو وهم أم حقيقة؟ أمرٌ صعب في كثير من الحالات.
فلا تُصدّق كل توصية رقمية، ولا تشترِ كل تغليفة براقة لمجرد أنها تلمع، ولا تجرّب كل منتوج صُوِّر على منصة، فالمنصة الرقمية ليست دائما مرجعا موثوقا، بل رافعة لمحتويات قد تخدعك بالصورة والصوت، وقد يحترف من هم وراء تعميمها، الكذب بابتسامة مصطنعة وعرضٍ مبهر.
فلا تُلقِ بثقتك حيث لا ينبغي أن تُلقى، ولا تُودِعها صدورا تتزيّا بالحيلة، وتكتسي بألوان زائفة، فتلك العبارة التي يردّدونها : “بشهادة كبار المؤثرين”،
ليست في جوهرها شهادة، ولا هي من الكِبار، ولا من المؤثّرين بالحق والصواب، بل هي زخرف من القول، يُراد به التمويه، ويُقصَد منه الاسترزاق،
وتُساق به العقول إلى باب الخديعة .. فارفعوا درع القطيعة.
لقد باتت الثقة في هذا العصر سلعة تُباع كما تباع الأقراص المنومة، تُسعَّر بمقاطع مصوّرة، وتُروَّج بابتسامات صفراء رغم بياض الأسنان بِـ “الهوليود سمايل” واحمرار الشفتين بِـ “الفيلتر”، أما “اللايك” يا سادة يا كرام، فذاك لا يشهد على جودة، ولا يدلّ على صدق، بل قد يوشي بالخديعة، ويكون ستارا كثيفا يُخفِي خلفه الغشّ والتزوير والتلفيق.
فكُن على حذر، ولا تدع عينيك تنخدعان بوهج الصورة، ولا قلبك يطمئن لصوت رخيم في مقطع دعائي، فالذهب لا يلمع لكل من أبصره، ولا يوزن باللمعان، بل بأصل المعدن ومكياله.
والعقل لا يُساق كما تُساق الغنم إلى المرعى،
بل يجب أن يتحقّق، وأن يسأل، وأن يُمَحّص،
فمن لا يُفكر، يُخدَع، ومن يُسلِم أمره لكل ما يُبثّ،
فذاك ضحية للمنصات في زمن مواقع التواصل الاجتماعي .. لا حرّ في عالم العقل والنقد.
فامشِ في سبيلك بين زقاق روابط المنصات، بميزان المعرفة، ولا تدع الكاميرا، وإن كانت ماكرة، تسلبك بصيرتك، وإذا أردت أن تشتري شيئا، فاشترِه بعقلك، لا بعاطفتك، واسمع لكل قول، ولا تأخذ إلا أحسنه، ولا تُزكِّ منتوجا لم تُجرِّبه، ولا تُصدِّق مؤثّرا حتى تُمحّص قوله، فما أكثر الذين يبيعون الكلام، بخطاب من الأوهام.