رشيد صفـَـر
في كل رمضان يعود نفس المشهد، الأسواق تعج بالناس، الجيوب تئن، والدرهم يفقد وزنه أمام أعين المواطن البسيط. لكن وسط كل هذا، هناك كائن مراوغ، سريع الاختفاء، يجيد لعبة الغميضة مثل صبي شقي وسريع الحركة … إنه الثمن !
الأسعار في رمضان وغيره ليست رقما مكتوبا على لافتة، بل هي سر دفين، همس بين التاجر والزبون، اتفاق شفهي يتغير حسب الملامح والملابس والطريقة التي تسأل بها. بعض التجار يعشقون الغموض، وكأنهم يبيعون الذهب الأسود، بينما الزبائن يتحولون إلى محققين يبحثون عن الحقيقة المفقودة.
قانون في عطلة … والمستهلك في ورطة
القانون المغربي يقولها بصراحة: “إشهار الأسعار واجب، وإخفاؤها مخالفة”. لكن يبدو أن بعض التجار يقرأونه بالمقلوب، أو يعتبرونه نصيحة ودية. القانون رقم 31.08 ينص على إلزامية إشهار الأسعار، ومدونة المنافسة تحذر من العواقب، لكن في الواقع، الأسعار أشباح هاربة لا ترى بالعين المجردة !
وعندما تأتي لجان المراقبة، تظهر الأسعار فجأة وكأنها عادت من المنفى! تُعلّق الأثمنة على الجدران، وتتحول الأسواق إلى نماذج للمثالية… لكن ما إن تدير المراقبة ظهرها، حتى تعود الأسعار إلى الاختباء مثل فأر سريع هارب من قط بدين.
ضحية المسرحية
المواطن في هذا السيناريو ليس سوى متفرج في مسرحية متكررة، يقترب من التاجر ويسأل:
بشحال الثمن ؟
وهكذا تبدأ المساومة، ويبدأ المستهلك في الشعور وكأنه دخل إلى مزاد علني سري، حيث السعر ليس ثابتا، بل مزاجيا يتأثر بالحالة الاقتصادية، وحالة الطقس، وحتى بحالة التاجر النفسية والعائلية فالمتزوج ليس كالخاطب مع البائع “الحاطب” !!
رمضان… شهر الرحمة أم شهر المضاربة؟
في ثقافتنا العربية والإسلامية، رمضان هو شهر الرحمة والتكافل، لكنه في الأسواق يتحول إلى شهر استغلال وانتهاز الفرص. أسعار المواد الغذائية تتسلق مثل متسلق جبال محترف، والتجار يتحولون إلى خبراء في الاقتصاد السري، حيث القاعدة الذهبية هي: “السعر يُحدد حسب الزبون، وليس حسب السوق!”
وهنا يأتي السؤال: لماذا يجب على المواطن أن يتحول إلى مفاوض بارع، وخبير اقتصادي، وعالم نفس حتى يشتري الطماطم؟ لماذا لا نرى الأثمنة معلقة بوضوح كما ينص القانون، دون الحاجة إلى الدخول في معركة كلامية مع كل عملية شراء؟
العقوبات… نظرية أم تطبيق؟
نظريا، عدم إشهار الأسعار قد يؤدي إلى غرامات تصل إلى 50 ألف درهم، لكن عمليا، كثير من المخالفين يخرجون منها كما يخرج الإوز من الماء… جافا وسالما !!
لماذا؟
لأن الرقابة لا تستطيع أن تكون في كل مكان، ولأن بعض التجار يجدون دوما طرقا ذكية أو ماكرة للالتفاف حول القانون.
لماذا يعد إشهار الأسعار ضرورة وليس مجرد إجراء بسيط ؟
أولا : لحماية المستهلك من التلاعب، لأن عدم وضوح الأسعار يفتح الباب أمام التلاعب والاحتيال، حيث يمكن لبعض التجار تغيير الأثمان وفقا لنوعية الزبون ومستواه الاجتماعي أو الظرفية الاقتصادية.
ثانيا : لتعزيز الشفافية والمنافسة العادلة، فعندما تكون الأسعار مُعلنة و واضحة، يستطيع المستهلك المقارنة بين العروض المختلفة واختيار الأنسب له، حسب احتياجاته الخاصة وإمكانياته المادية مما يخلق سوقا أكثر تنافسية.
ثالثا : لتقليل النزاعات بين البائع والمشتري فعند غياب التسعيرة الواضحة تؤدي هذه الحالة إلى جدالات يومية بين الزبائن والتجار، تنتهي بالنزعات وقد تتطور للمشاجرة.
رابعا : لتسهيل عمل أجهزة المراقبة، فإن وجود الأسعار بشكل علني يسمح لمصالح المراقبة، بالتدخل السريع واتخاذ الإجراءات القانونية ضد التجار، الذين يرفعون الأسعار بشكل غير مبرر.
رمضان… فرصة لتعزيز القيم التجارية العادلة
يُعتبر شهر رمضان في الثقافة العربية والإسلامية مناسبة لتعزيز قيم الأمانة والنزاهة في التعاملات التجارية، لكن المفارقة تكمن في أن هذا الشهر المبارك يشهد ممارسات احتكارية واستغلالية من بعض التجار، ما يتعارض مع روح التكافل الاجتماعي. لذلك، فإن تشديد الرقابة وتوعية التجار بأهمية إشهار الأسعار هو إجراء ضروري لضمان سوق متوازنة وعادلة.
تشديد الرقابة والعقوبات… ضرورة ملحة
في السنوات الأخيرة، كثفت السلطات المغربية، ممثلة في وزارة الداخلية ومصالح المراقبة الاقتصادية، حملاتها التفتيشية لضبط المخالفات المتعلقة بعدم إشهار الأسعار أو المضاربة غير المشروعة، حيث يتم تحرير محاضر ضد المخالفين وفرض غرامات مالية قد تصل إلى 50 ألف درهم، وفق ما تنص عليه القوانين الجاري بها العمل. لكن رغم هذه الجهود، لا تزال هذه الظاهرة مستمرة، ما يطرح تساؤلات حول ضرورة تشديد العقوبات وتفعيل الرقابة الإلكترونية على الأسعار في الأسواق.
الحل؟ وعي المستهلك قبل كل شيء!
الحل ليس فقط في تشديد العقوبات، بل في تطوير الثقافة الاستهلاكية، المواطن عليه أن يكون صوتا ضد الفوضى، يرفض شراء أي منتج بدون سعر معلن، ويبلغ عن أي تجاوز وهنا يبرز دور وسائل الإعلام التي يجب أن تفضح هذه التجاوزات، والجمعيات المختصة في حماية حقوق المستهلك.. التي عليها أن تتحول إلى جبهة ضغط حقيقية.
رمضان شهر البركة، وليس موسما لتحويل الأسواق إلى سباق ماراثوني في البحث عن السعر الهارب، الأسواق ليست حلبة ملاكمة، والأسعار ليست أرقاما سرية، والمستهلك ليس فأر تجارب في متاهة (كم الثمن !؟).
وهادشي كامل غير ..
باش تستهلك وبلا متهلك !!!