سلسلة الواقع والمواقع ..
في عصر التطور التكنولوجي والاتصال الفوري، لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي مجرد منصات للتفاعل بين أفراد العائلة والأصدقاء وزملاء العمل فقط، بل أصبحت فضاء لصناعة وتشكيل الرأي العام، وإشعال النقاشات الكبرى، والتأثير في القرارات السياسية، فقد تتحول تغريدة أو مقطع فيديو قصير إلى قضية وطنية أو أزمة دولية.
“الواقع والمواقع “… سلسلة مقالات ننشرها حصريا في جريدة “ديريكت بريس” للتسلية والترفيه وأيضا للتوعية والتثقيف، حيث نرصد من خلالها تفاصيل حدث خلق ضجة إعلامية كبيرة، انطلاقا من مواقع التواصل الاجتماعي، لنتتبع خيوط تأثيره على ردود أفعال المواطنين وصناع القرار في العديد من دول العالم.
بقلم : رشيد صفــَـر
الحلقة 10 :الحكم على منتج بـ 23 سنة سجنا بسبب التحرش الجنسي.
لم يكن أحد يتوقع أن رجلا بحجم شهرة المنتج العالمي “هارفي واينستين”، أحد أقوى المنتجين في هوليوود، سيسقط بيد العدالة بطريقة صادمة، فقد كان اسمه لعقود مرادفا للنجاح السينمائي، حيث أنتج أفلاما حصدت الجوائز وأطلق مسيرات العديد من النجوم الكبار. لكن خلف هذه الصورة اللامعة، كان يخفي تاريخا طويلا من التحرش والاعتداء الجنسي على العشرات من النساء، مستغلا نفوذه وسلطته في صناعة السينما.
بداية الحكاية
في أكتوبر 2017، وجدت شركة الإنتاج الهوليوودية “ذا واينستين كومباني” نفسها وسط عاصفة غير مسبوقة من الفضائح، بعد انتشار تقارير إعلامية صادمة تكشف عن اتهامات بالتحرش والاعتداء الجنسي ضد المنتج السينمائي الشهير “هارفي واينستين”. لكن الأمور لم تتوقف عند التقارير الصحفية، إذ انتشرت شهادات ضحاياه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومع انتشار وسم #MeToo، على تويتر ومعناها “أنا كذلك” أو “أنا أيضا”، تحولت الفضيحة إلى حركة عالمية أطاحت بالمنتج “واينستين” و صارت حديث الساعة في ذلك الوقت، إذ غيرت هوليوود من استوديوهات للسينما وتصوير لقطات أمام الكاميرا، إلى الحديث عن أحداث غير معلن عنها، لاعتداءات جنسية وراء الكواليس بعيدا عن عدسات الكاميرا.
في 5 أكتوبر 2017، نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تحقيقا استقصائيا كشف عن اتهامات بالتحرش ضد “واينستين”، استنادا إلى شهادات نساء عملن معه، بينهن ممثلات بارزات، إذ تلا التحقيق تقرير آخر لمجلة أخرى اسمها “نيويوركر”، تضمن شهادات أكثر جرأة حول اعتداءات جنسية و اغتصابات ارتكبها المنتج الشهير على مدى سنوات.
لم تتوقف الصدمة عند حدود المقالات والتحقيقات الصحفية، بل بدأت نجمات هوليوود يتحدثن بصراحة عن القضية بدون تحفظ، إذ أن أسماء مثل أنجلينا جولي، و غوينيث بالترو، و آشلي جود، و روز ماكغوان كشفن عن تعرضهن للتحرش أو الابتزاز الجنسي من قبله، حيث أحدثت هذه الشهادات زلزالا ضرب صناعة السينما، و أظهرت كيف كان نفوذ هذا المنتج يسمح له بالإفلات من العقاب لعقود، بينما كانت الضحايا غير قادرات على الرفض و رفع شكايات للسلطات الأمنية والقضائية خوفا على مستقبلهن المهني وفقدانهن لفرص الشغل في السينما.
تحولت قضية “المنتج المٌغتصب” من فضيحة إلى حركة عالمية بسبب انتشار وسم #MeToo، على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن دعت الممثلة “أليسا ميلانو” النساء إلى مشاركة قصصهن عن التحرش على تويتر، و خلال ساعات، اجتاح الهاشتاغ منصات التواصل الاجتماعي، وتدفقت آلاف القصص من نساء في مختلف المجالات، وليس فقط في هوليوود. فجأة، أصبح الحديث عن التحرش قضية رأي عام، وتحولت #MeToo إلى ثورة ضد ثقافة الصمت والتواطؤ.
بعد أن فتحت الصحافة الأمريكية ملف هارفي واينستين، لم يكن الأمر مجرد قضية عابرة، بل تحولت إلى موجة من الاعترافات الصادمة. في أكتوبر 2017، بدأت أسماء كبيرة في هوليوود تتحدث علنا عن تجاربهن مع المنتج السينمائي الشهير، مما زاد الضغط على الصناعة السينمائية وكشف حجم الانتهاكات التي كان يغطيها النفوذ والخوف.
في أولى الصدمات الكبرى، خرجت “أنجلينا جولي” و”غوينيث بالترو” عن صمتهما وأكدتا أن “واينستين” تحرش بهما في بداية مسيرتيهما الفنية، إذ صرحت “جولي” بأنها تعرضت لمحاولات تحرش من “واينستين” خلال تعاونها معه في فيلم في فترة التسعينيات، وأكدت أنها رفضت بشكل قاطع وقررت عدم العمل معه مجددا، كما أضافت أنها أرسلت تحذيرات لصديقاتها في المجال لتجنب التعامل معه، من جانبها كشفت “غوينيث بالترو” أنها تغرضت لحادثة تحرش من طرف “واينستين” عندما كانت في بداية مسيرتها الفنية، حيث أكدت أنه حاول استدراجها إلى غرفة فندق بحجة “مناقشة دور سينمائي”، لكنها رفضت، وأبلغت صديقها آنذاك “براد بيت”، الذي واجه “واينستين” في الموضوع.
خلفت تصريحات النجمتين تأثيرا قويا، إذ لم يعد بالإمكان اعتبار هذه الاتهامات مجرد ادعاءات من ممثلات مغمورات، بل تحولت إلى فضيحة كبرى ضربت مصداقية هوليوود نفسها، و مع تزايد التصريحات حول القضية والضغط بمواقع التواصل الاجتماعي ضمن حملة “أنا كذلك”، شهد يوم 31 أكتوبر 2017 نقطة تحول حاسمة، حيث تقدمت أكثر من 80 ممثلة للإدلاء بشهاداتهن حول تعرضهن للتحرش أو الاعتداء الجنسي من قبل واينستين، ومن بين الأسماء التي ظهرت في القائمة :
روز ماكغوان، التي كشفت أن “واينستين” اغتصبها، وأكدت أنها تعرضت لضغوط كبيرة للصمت.
“آشلي جود”، التي قالت إن المنتج حاول إجبارها على ممارسات غير لائقة داخل غرفته في الفندق.
سلمى حايك، التي صرحت أن واينستين هدد بإنهاء مسيرتها إن لم تستجب لرغباته.
هذا الكم الهائل من الشهادات حول اعتداءات امتدت على مدى أكثر من 30 سنة، كشف أن ما حدث لم يكن مجرد “حالات فردية”، بل كان نمطا ممنهجا استغل فيه المنتج سلطته ونفوذه لإسكات ضحاياه.
تحت هذا الضغط الهائل، سقطت إمبراطورية واينستين بسرعة غير متوقعة، حيث تعرض للطرد من شركة الإنتاج التي أسسها، وسحبت منه عضويته في أكاديمية الأوسكار وجمعيات السينما الكبرى. لكن التأثير لم يتوقف عند هذا الحد، فقد امتد ليشمل شخصيات أخرى في عالم الترفيه والسياسة، حيث بدأ المزيد من الضحايا في كسر حاجز الصمت وكشف اعتداءات أخرى ظل مرتكبوها محميين وخارج دائرة المحاسبة والعقاب مستغلين النفوذ والسلطة ومن بين الأسماء التي تم الكشف عنها : الممثل “كيفن سبيسي”، الذي اتُهم بالتحرش بعدد من الشباب، مما أدى إلى طرده من مسلسل House of Cards واستبعاده من فيلم كان قد انتهى من تصويره، وأيضا المخرج “بريت راتنر”، الذي تم منعه من العمل في مشاريع كبرى بعد توجيه اتهامات له بالتحرش، و المقدم التلفزيوني “مات لاور”، الذي أُقيل من شبكة NBC بعد اتهامات باستغلال سلطته للتحرش بزميلاته.
في خطوة غير مسبوقة، بدأت السلطات القضائية تحقيقات مكثفة، مما أدى إلى اعتقال “واينستين” ومحاكمته بتهم الاعتداء الجنسي والاغتصاب. حاول محاموه الدفاع عنه، مدعين أن العلاقات بينه وبين المشتكيات كانت بالتراضي، لكن الأدلة والشهادات كانت دامغة ..
وفي النهاية، حكم عليه بالسجن 23 عاما، في انتصار تاريخي لحركة #MeToo وضحايا التحرش حول العالم.
لم تكن قضية “واينستين مجرد فضيحة عابرة، بل كانت نقطة تحول كبرى، إذ أجبرت شركات الإنتاج على تغيير سياساتها بشأن استغلال الفنانات ومهنيي القطاع ومحاربة التحرش، و أدت إلى إطلاق مبادرة Time’s Up في يناير 2018، ومعناها :انتهى الوقت” كرمز على أن وقت السكوت عن فضح المتحرشين قد فات وجاء وقت فضحهم والتبليغ عنهم للسلطات الأمنية، كرد فعل على فضيحة هارفي واينستين، وقد وضعت مبادرة Time’s Up من بين أهدافها الأساسية محاربة التحرش والتمييز الجنسي في أماكن العمل، خصوصا في هوليوود والصناعات الأخرى، وقد قام المشرفون على هذه المبادرة بجمع ملايين الدولارات لإنشاء صندوق تضامني لمساعدة ضحايا التحرش، كما ساهمت هذه المبادرة في إحداث تغييرات قانونية لحماية النساء من الاستغلال، إذ دفعت الحكومات في عدة دول إلى تشديد القوانين المتعلقة بالتحرش والاعتداء الجنسي.
لقد أكدت فضيحة هذا المنتج النافذ، أن لوسائل التواصل الاجتماعي قوة كبيرة وتأثيرا قويا في فضح ومحاسبة المتحرشين وكسر ثقافة الصمت، إذ لم يعد بالإمكان إسكات الضحايا بسهولة، ولم تعد الشهرة أو السلطة تمنح دائما الحصانة للمعتدين، فعندما يجد صوت الضحايا منصة مثل تويتر وفيسبوك، يمكن أن يهز أقوى الشخصيات في العالم.