بقلم: رشيد صفـَر
في زمن صار فيه الطفل المغربي يحمل هاتفا ذكيّا أكثر مما يحمل كتابا مدرسيا، غزت منصات التواصل مقاطع فيديو توصف بخفّة مؤلمة بـ”الترفيهية”، لكنها في العمق خادشة للحياء، مخلّة بالقيم، ومُنتجة بأدوات لا يحملها إلا عقل يفكر من خارج المنظومة الأخلاقية، وإن كان داخل المجتمع. بعض هذه المقاطع تُظهر شخصيات حقيقية تم تحريف أقوالها بذكاء اصطناعي، وأخرى تُولّد بالكامل بصوت وصورة لشخصيات مصطنعة، تتحدث بلغة سوقية هجينة، بلغة طفولية مُمسرحة، أو صوت “بوبيني” يحاكي براءة مفقودة.
الأخطر؟ أن بعض هذه الفيديوهات قد يصنعها أيضا أطفال، ويُضحك بها الكبار، والعكس صحيح، ويتم تداولها في مجموعات الأسرة نفسها التي يفترض أنها حارس القيم لا مروج الابتذال. لن تجد فرقا كبيرا بين الضحك الذي تثيره هذه المقاطع، والحرج الأخلاقي الذي تخلفه داخل نفس كل من لازال يؤمن بأن التربية فعل جماعي، وليس تطبيقا رقميا بعيدا عن المحاسبة والمسؤولية.
لم تعد قضية الفيديوهات الخادشة مرتبطة فقط بـ”يوتيوبر” طائش أو مؤثرة مهووسة بـ”الترند”. المشهد الآن معقد، يصعب اختزاله في سلوك منحرف. نحن أمام تحول جذري : تكنولوجيا ذكية في يد أفرلد من المجتمع، ويتفرج عليها يافع أو طفل أو شخص لم يتهيأ لا نفسيا ولا قانونيا للتعامل معها. طفل اليوم لا يتلقى “القيم” من أسرته ولا من معلمه، بل من “منصات التواصل الاجتماعي”، من “الصفحات الساخرة”، ومن شخصيات رقمية تُولَّد على عجل لتؤدي دور المعلم الهزلي، أو “المؤثر” الفاجر.
وعندما يصفق الكبار قبل الصغار لهذا الانزلاق، فلا تسأل كثيرا عن جودة التعليم، بل اسأل عن منطق التربية في زمن الرقمنة. لقد انتقلنا من ترفيه العائلة إلى صناعة الإهانة باسم “الضحك”، من التعليم الحيّ إلى التلقين الآليّ، من الفضاء التربوي إلى خوارزميات تسهر على تربية عقولنا الجماعية.
تشريعيًا؟ نعم، هناك نصوص. ولكن النصوص تُقاس بقابليتها للتطبيق، لا بعدد فصولها.
الفصل 1-447 يجرم نشر صور أو فيديوهات دون رضا أصحابها ..
الفصل 483 يعاقب على الإخلال العلني بالحياء،
قانون 103.13 يتحدث عن التحرش الرقمي…
لكن هل هذه النصوص صالحة لضبط محتوى يصنعه طفل بتطبيق هاتفي، بصوت اصطناعي، وينشره من حساب باسم مستعار ؟
القانون في هذه الحالة يبدو مثل شخص يحاول إغلاق صنبور ماء بالقطن.
لم تواكب المناهج المدرسية هذا التحول الرقمي، ولم تتضمن المقررات الدرس الأخلاقي في الفصل، الذي وإن تمت برمجته فهو لا يساوي عند الطفل دقيقة واحدة من فيديو جذاب على “الريلز”. والأسرة، بدورها، تفتقر للعدة البيداغوجية والرقمية، بل أحيانا تجهل تماما ما الذي يشاهده ويشاركه ابنها في غرفته الخاصة. وهذا الواقع يفتح بابا عريضا لما يمكن تسميته بـ”التفكك الرقمي الصامت”.
ولأن لا شيء أخطر من الصمت الاجتماعي تجاه الانحراف، فإن تداول هذه الفيديوهات في مجموعات العائلة، الترفيه، الضحك… يجعلنا أمام ظاهرة تطبيع جماعي مع التفاهة الرقمية الهادمة للأخلاق النبيلة، في تحول صادم داخل منظومة القيم نفسها. لم يعد الوعي هو ما يحكم التفاعل، بل عدد “القلوب”، “الضحكات”، و”المشاركة”.
فما العمل؟ هل نحظر الذكاء الاصطناعي؟ مستحيل.
هل نعوّل على الأسرة وحدها؟ إنها تئن تحت عبء التحولات.
هل ننتظر أن تشتغل المدرسة كمركز رقمي؟ لا يبدو ذلك قريبا.
لكننا على الأقل نستطيع أن نبدأ التفكير في قانون جديد، لا يقف فقط عند “التحرش” و”التشهير”، بل يعترف بأن المحتوى المُولّد آليًا يمكن أن يكون سلاحًا أخطر مثل سكين بيد مراهق أو راشد.
من الضروري في هذه الفترة المفصلية، دعم مرصد وطني لمراقبة الأخلاقيات الرقمية، لا كهيئة صورية، بل كجهاز حيّ يربط التحليل السوسيولوجي بتغير الذهنيات، وإطلاق حملات تحسيسية بلغة يفهمها الجيل الجديد، لا بلغة الخطب المدرسية القديمة.
ومن المطلوب إشراك المؤثرين الأخلاقيين الجدد – نعم، هناك مؤثرون لهم ضمير – في صناعة خطاب بديل، قادر على منافسة “الترند” لا مواجهته بتأنيب الوجدان.
لا يمكن أن نكون ضد الذكاء الاصطناعي بخطاب تعميمي، بل ضده حين يُستخدم ليضحك على القيم بدل أن يخدمها. ولسنا ضد الطفل الذي يصنع محتوى، بل ضد المهادنة وغياب المسؤولية حين نضحك ونشارك، ونتفاعل مع محتوى يخرّب لسان الطفل وأخلاقه، ثم نسأل بنبرة الحسرة :
لماذا تراجع التعليم، ولماذا فشلنا في التربية !؟
في نهاية المطاف، من يربي الطفل اليوم؟ المدرسة؟ الأسرة؟ أم “الألغوريثم” !؟..
ومن يضحك على من !؟ ..
ومتى تتدخل السلطات المعنية لمحاربة هذه الظاهرة الرقمية، المدمرة للأخلاق والقيم داخل المجتمع !؟.