سلسلة الواقع والمواقع ..
في عصر التطور التكنولوجي والاتصال الفوري، لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي مجرد منصات للتفاعل بين أفراد العائلة والأصدقاء وزملاء العمل فقط، بل أصبحت فضاء لصناعة وتشكيل الرأي العام، وإشعال النقاشات الكبرى، والتأثير في القرارات السياسية، فقد تتحول تغريدة أو مقطع فيديو قصير إلى قضية وطنية أو أزمة دولية.
“الواقع والمواقع “… سلسلة مقالات ننشرها حصريا في جريدة “ديريكت بريس” للتسلية والترفيه وأيضا للتوعية والتثقيف، حيث نرصد من خلالها تفاصيل حدث خلق ضجة إعلامية كبيرة، انطلاقا من مواقع التواصل الاجتماعي، لنتتبع خيوط تأثيره على ردود أفعال المواطنين وصناع القرار في العديد من دول العالم.
بقلم : رشيد صفــَـر
الحلقة 2 : حملة فايسبوكية لغزو منطقة عسكرية بالولايات المتحدة الأمريكية
في عام 2019، شهدت منصات التواصل الاجتماعي ظاهرة غير مسبوقة بولاية نيفادا ببلد العم سام، حيث انتشرت دعوة جماعية على فيسبوك لحشد آلاف الأشخاص، من أجل اقتحام المنطقة العسكرية 51، القاعدة السرية المشهورة بالأساطير حول الكائنات الفضائية والأطباق الطائرة.
لكن كيف بدأت هذه الفكرة الغريبة؟ وكم بلغ عدد المشاركين؟ وهل تمكنوا من اقتحام القاعدة العسكرية وكشف أسرارها ؟ وكيف واجهت السلطات الأمريكية هذه الغزو الذي تم التخطيط له من فيسبوك ؟
بدأت القصة في يونيو 2019، حين نشر شاب أمريكي يدعى “مات بارنيت”، وهو متخصص في التسويق الرقمي، تدوينة على فيسبوك جاءت كالتالي : ” لنذهب جميعا إلى منطقة 51 في 20 سبتمبر، ونركض بسرعة مثل الأبطال لنأخذ كل ما فيها !!!”.
كانت الفكرة مجرد دعابة، لكنها سرعان ما انتشرت كالنار في الهشيم، وتحولت من نكتة على الإنترنت إلى حملة شارك فيها أكثر من مليون شخص خلال أسبوعين، مما دفع وسائل الإعلام العالمية إلى تناولها بجدية، حيث دخلت كبريات
المؤسسات الإعلامية على الخط.
عرفت هذه الحملة الفيسبوكية تغطية إعلامية مكثفة من أبرز القنوات والجرائد بداية من بي بي سي (BBC) و سي إن إن (CNN)، مرورا بنيويورك تايمز (The New York Times) وصولا لواشنطن بوست (The Washington Post)، إذ كانت هذه المؤسسات الإعلامية المعروفة بمصداقيتها في الولايات المتحدة الأمريكية وباقي دول العالم، تشير إلى تطور هذه الحملة وأثرها على الرأي العام، وكيف أن الفضاء الرقمي أصبح أداة للتحكم في الناس عن بعد. كما سلطت الغارديان (The Guardian) الضوء على أبعاد هذه الحملة الفيسبوكية، مشيرة إلى مسألة تحول مزحة على الإنترنت إلى ظاهرة جماهيرية ضخمة.
في اليوم الموعود وبالضبط بتاريخ 20 شتنبر 2019، تدفق الناس على مداخل العبور نحو ولاية نيفادا، وبلغ عددهم 1500 مشارك، وسط استنفار أمني كبير، حيث كانت السلطات الأمريكية قد أخذت الأمور على محمل الجد، و نشرت تحذيرات صارمة، مفادها بأن أي محاولة لاقتحام القاعدة العسكرية ستواجه بالقوة، لكن ما حدث لم يكن غزوا حقيقيا، بل تحولت الحملة الفيسبوكية إلى مهرجان غريب !!.
رغم أن 1500 شخص تجمعوا بالقرب من المنطقة العسكرية المعلومة، إلا أنهم لم يحاولوا اختراق القاعدة، بل حولوا الحدث إلى احتفال غريب تخللته الرقصات والأغاني، وارتداء أزياء الكائنات الفضائية، والتقاط الصور التذكارية.
ما حدث في حملة “غزو منطقة 51” ليس مجرد دعابة، بل يعكس تحولا في طبيعة السلوك الجماعي في العصر الرقمي، إذ يمكن تفسير هذه الظاهرة بعدة عوامل، ومنها الهروب من الروتين، بواسطة البحث عن تجربة فريدة وسط حياة مليئة بالرتابة، إضافة إلى الإحساس بالمشاركة في حدث كبير، يحضى بمتابعة إعلامية على نطاق واسع، فحتى و لو كان الحدث غير جاد، فإن الانتماء لحركة جماعية يمنح الناس شعورا بالقوة والتميز، إصافة إلى تأثير الإنترنت في خلق واقع بديل، إذ منذ تاريخ هذه الواقعة كانت وسائل التواصل، قد أصبحت تخلط بين المزاح والواقع، مما يجعل من الصعب أحيانا، التمييز بين الدعابة والأمور الجادة.
لقد رأينا كيف تحولت مزحة غزو ولاية نيفادا إلى حدث عالمي، وكيف اندفع الناس خلف دعوة فيسبوكية، مما يطرح سؤالا مثيرا :
هل كل الناس يتحكمون في أفعالهم وقراراتهم، أم أن ضغطة زر كفيلة بدفعنا إلى المجهول دون وعي بالعواقب !؟.
