بقلم الصحافي حسن الخباز
عاد البروفسور يوسف بوعبد الله، أحد أعمدة الطب المغربي في جراحة الأطفال، إلى أرض الوطن قادمًا من قطاع غزة، حيث كان في مهمة إنسانية بطولية، دامت أزيد من شهرين داخل مستشفيات الشمال الفلسطيني، التي كانت تحت القصف والحصار. المفارقة الصادمة أن هذا الرجل، الذي اختار غزة بدل عيادته الخاصة بفاس، والتي كانت تدر عليه ملايين الدراهم شهريًا، لم يجد في استقباله أحد بمطار محمد الخامس الدولي، سوى أفراد عائلته الصغيرة.
صمت رسمي وإعلامي غريب رافق عودة رجل سخر علمه وحياته من أجل علاج الأطفال ضحايا الحرب. لا حفاوة استقبال، لا تغطية صحفية، لا تصريح رسمي، لا رسالة تقدير، لا التفاتة رمزية… وكأن الرجل كان عائدًا من نزهة، أو كأنه شخصية غير مرغوب فيها، رغم ما قدمه من تضحيات جبارة من أجل فلسطين، وتحديدًا في واحدة من أسوأ الحروب التي عرفها القطاع منذ سنوات.
يوسف بوعبد الله، رئيس قسم جراحة الأطفال بمستشفى الحسن الثاني بفاس، لم يكن يومًا باحثًا عن الأضواء، لكنه كان دائمًا في قلب المعركة الطبية لأجل أطفال غزة. فقد زار القطاع في سنوات 2008 و2012 و2014، ليعود إليه في عزّ عدوان 2024، بعد أن تمكن من دخول القطاع ضمن وفد طبي عربي عقب “طوفان الأقصى”، حيث قضى أكثر من 60 يومًا وسط أجواء القصف وشحّ الأدوية وانهيار المنظومة الصحية، ليُجري عشرات العمليات الدقيقة وينقذ أرواحًا لا تُقدّر بثمن.
الفيديو الذي يوثّق لحظة وصوله إلى أرض الوطن أثار موجة غضب واسعة على منصات التواصل الاجتماعي، حيث بدا فيه البروفسور وهو يلتفت يمينًا وشمالًا، يبحث بعينيه عن من يحييه أو يعانقه أو يلتقط له صورة… لكن لا أحد حضر. وكتب ناشطون: “لو كان مؤثرًا تافهًا أو شخصية مثيرة للجدل، لوجد في استقباله كاميرات القنوات وميكروفونات الصحف وقصص الإنستغرام”.
العار كل العار، أن يُستقبل من أنقذ أرواحًا بريئة بصمت قاتل. العار أن تُمنح الأضواء لأشخاص بلا إنجازات، بينما يُغيب الأبطال الحقيقيون. هذا الرجل، الذي استحق وسامًا ملكيًا واستقبال الأبطال، عاد كأنه عائد من منفى، لا من مهمة إنسانية.
الغزاويون يعرفون قدر يوسف بوعبد الله، ويعتبرونه أحد أبنائهم، واحتفوا به بما يليق بمقامه. أما في بلده، فالمشهد كان صادمًا، وصمت الإعلام الجاد كان مخزيًا، وغاب المؤثرون الذين لا يظهرون إلا لنقل التفاهة.
رغم ذلك، فإن ما خطّه هذا الرجل من مواقف وإنجازات سيبقى راسخًا في سجلات الشرف، مهما تنكّر له الإعلام والسلطة. فلتطمئن يا يوسف… أنت على صواب، والزمن وإن كان زمن التافهين، إلا أن التاريخ لا ينسى من صنع المجد الحقيقي.