“الواقع والمواقع “… سلسلة مقالات ننشرها حصريا في جريدة “ديريكت بريس” للتسلية والترفيه وأيضا للتوعية والتثقيف، حيث نرصد من خلالها تفاصيل حدث خلق ضجة إعلامية كبيرة، انطلاقا من مواقع التواصل الاجتماعي، لنتتبع خيوط تأثيره على ردود أفعال المواطنين وصناع القرار في العديد من دول العالم.
بقلم : رشيد صفـَـر
الحلقة 18 : لماذا لا يطلق الشرطي رصاصة من مسدسه جهة رأس المجرم ويريحنا منه !؟.
لماذا لا يطلق الشرطي رصاصة من مسدسه جهة رأس مجرم يحمل سكينا ويريحنا منه !؟ ..
كثيرا ما نسمع هذه الجملة أو نقرأها في تعليقات رواد مواقع التواصل الاجتماعي، عند انتشار فيديوهات توثق لحظة تدخل عناصر الشرطة لإيقاف شخص جانح، يتحرك في الفضاءات العامة و هو يهدد المارة و رجال الأمن بسكين من الحجم الكبير.
وللحديث عن هذا الموضوع بشكل أعمق، وبتحليل علمي وواقعي، اخترنا أن نستعرض حادثة أكادير المؤثرة، التي قد تقدم جوابا شافيا لهذا السؤال العجيب والمستفز في آن واحد.
وقائع الحادثة : ماذا وقع بالضبط في أكادير !؟.
بتاريخ 6 أبريل 2025، انتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي فيديو صادم، يوثق لحظة مواجهة بين عناصر الشرطة ومجرم، كان يحمل سكينا كبيرا في أحد شوارع مدينة أكادير، وتحديدا بحي الصويري بمنطقة تيكيوين.
باشرت عناصر الشرطة القضائية هذا التدخل، بناء على شكاية تفيد بقيام شخص في حالة تخدير متقدمة، بإحداث فوضى داخل محل عمومي، والاعتداء على الأشخاص والممتلكات، قبل أن يهاجم عميد شرطة بسلاح أبيض، ويصيبه بجروح خطيرة.
عندما وصلت دورية الأمن إلى المكان، رفض المجرم الامتثال، وأبدى مقاومة شرسة. ورغم الخطر، تعاملت الشرطة مع الوضع بحذر بالغ، فتم توجيه المسدسات صوب المجرم عله يتوقف عن الفوضى ويستسلم لرجال الأمن، لكنه استمر في هيجانه وحاول مهاجمة كل من يقترب منه.
لم تفقد العناصر الأمنية أعصابها، واستمرت في ضبط النفس، مطلقة رصاصات أخرى استهدفت ساق المجرم، فسقط أخيرا، دون أن يتخلّى عن سلاحه. وفي لحظة حرجة، حاول أحد المواطنين التدخل من الخلف مستعملا قطعة حديدية لضرب المجرم، لكن صاح رجال الأمن بحزم :
“لا.. لا.. لا تضربه.. ابتعد.. ابتعد…”.
الأشياء التي لا تلتقطها الكاميرات
ما لم يظهر في الفيديو المتداول عبر مواقع التواصل الاجتماعي، هو حجم الضغوط القانونية والنفسية الملقاة على كاهل رجل الأمن في مثل هذه اللحظات. فالقانون لا يرى في المجرم عدوا يجب تصفيته، بل إنسانا ما زال يحتفظ بحقوقه، حتى وهو في قمة التهديد والخطر.
ووفق “المبادئ الأساسية بشأن استخدام القوة والأسلحة النارية من قبل الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين”، المعتمدة سنة 1990 بهافانا – كوبا :
“على الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين اللجوء إلى استخدام الأسلحة النارية فقط عندما لا تكون الوسائل الأخرى كافية لتحقيق الأهداف المشروعة لإنفاذ القانون، وعندما يكون استخدام هذه الأسلحة ضروريا تماما لحماية الأرواح”.
(الأمم المتحدة – المبادئ الأساسية، 1990، كوبا).
حادثة أكادير : الدرس المستفاد
ليست حادثة أكادير الأولى من نوعها، لكنها تقدم نموذجا حيا لما يعنيه تطبيق القانون في الميدان. فالشرطي المصاب لم يكن مجرد ضحية، بل كان أيضا مثالا للمهنية العالية، إذ واصل أداء واجبه حتى بعد إصابته ولم يصب المجرم في الجزء العلوي من جسمه.
رغم الصراخ، والدماء، والتهديد، اختارت الشرطة عدم إطلاق النار على الجزء العلوي من جسد المجرم، كما منعت تدخل أحد المواطنين الذي يبدو أنه كان من بين ضحاياه، بعدما حاول توجيه ضربة مميتة له بواسطة قطعة حديدية. وقد تدخل رجال الأمن في اللحظة المناسبة لمنعه من تنفيذ فعلته، لأن الحفاظ على حياة الجاني، وإن بدا ذلك مستفزا، يُعد جزء لا يتجزأ من احترام دولة القانون ويدخل أيضا في مهام الشرطة، التي تدخلت في حادثة أكادير بمبدأ :
“رحيما في غير ضعف حازما في غير عنف”.
وفي الأخير اعتقلت الشرطة المجرم وتم تقديمه للمحاكمة.
علم الإجرام : قراءة أعمق للسلوك
علم الإجرام يقدّم لنا تفسيرا دقيقا لمثل هذه السلوكيات. فالمعتدي قد يكون في حالة تخدير، أو يعاني من اضطراب نفسي، أو يكون مدفوعا بضغوط اجتماعية، و وفق نظرية “الضبط الاجتماعي” لعالم الاجتماع الأمريكي ترافيس هيرشي في كتابه “Causes of Delinquency” (1969):
“غياب الروابط الاجتماعية السليمة يدفع الفرد إلى سلوك منحرف، لكن الرد عليه يجب أن يكون مضبوطا ومؤسسا قانونيا، لا اندفاعيا”.
وهذا بالضبط ما قامت به عناصر الشرطة في حادثة أكادير.
الإنسان فوق الغضب
المفارقة المؤلمة أن الشرطة حرصت على حياة شخص “مجرم” كاد أن يقتل أحد أفرادها. هذا لا ينسجم مع منطق الغريزة والانتقام، لكنه يتماشى مع فلسفة دولة تحكمها المؤسسات والقانون.
وفي كتابه “La violence et l’État de droit” (فرنسا، 2011)، كتب الباحث الفرنسي دونيس سالاس :
“وظيفة الدولة ليست أن ترد العنف بالعنف، بل أن تضبط العنف بقوة القانون، وتُبقي على منسوب العدالة مرتفعا حتى في أسوأ اللحظات”.
الواقع والمواقع : بين اللقطة وخلفيات الحادثة.
ما حدث في أكادير ليس مجرد لقطة مصورة، بل طرح قانوني وأخلاقي مركب ومعقد.
في الواقع يجب أن تسود الحكمة وحسن التدبير، أما على المواقع، فالحكم غالبا ما يكون انفعاليا وآنيا و سريعا متسرعا، وغافلا عن الترتيبات القانونية والقيم الإنسانية.
حادثة أكادير لم تكن مجرد اشتباك مع مجرم مسلح، بل كانت درسا عميقا في الفرق بين الدولة والعصابة، بين الانضباط والانتقام، بين القانون والغضب.
في زمن السوشيال ميديا، مثل هذه المشاهد تذكّرنا بأننا نعيش في مجتمع تُحكمه الضوابط لا الرغبات، وأن احترام القانون، ولو بدا للبعض بإيقاع يطبعه التريث، فهو ما يحمينا جميعا… ويحمي حتى الجاني نفسه.
والمفارقة أن هذا المجرم، لو قُتل حينها برصاصة من مسدس أحد عناصر الأمن، أو بضربة من القطعة الحديدية التي كان يحملها المواطن، لتم فتح تحقيق مع الشرطة، وسُجن المواطن، ولا شك أن الاتهامات كانت ستُكال لرجال الأمن بالإفراط في استخدام القوة، من طرف نفس الأشخاص الذين يرددون الآن :
“كان على الشرطي أن يطلق رصاصة قاتلة جهة رأس المجرم ويريحنا منه !!!.”.
لكن في النهاية، لا يسعنا سوى أن نتمنى الشفاء العاجل للشرطي المصاب، وأن نرفع القبعة عاليا لعناصر الشرطة الذين يغامرون بحياتهم لحماية حياة المواطنين، لا لشيء، سوى لأنهم اختاروا الانتماء إلى صفوف حراس الأمن، بما تحمله الكلمة من معاني الشرف والمسؤولية والإنسانية.