عبد الغني السوري
من الممنوع إلى المقنن: رحلة المراهنة نحو التأثير العالمي
لم تعد المراهنة مجرد نشاط تقليدي يمارَس في الخفاء، بل تحوّلت اليوم إلى صناعة مقننة تدرّ مليارات الدولارات، وتكتسب تأثيرًا متزايدًا في شتى المجالات، من الرياضة إلى السياسة وحتى الحروب. تاريخيًا، كانت المقامرة تُعتبر من المحرمات الاجتماعية والقانونية في العديد من الدول. ففي فرنسا، أصدر الملك لويس التاسع مرسومًا عام 1254 يحظر المقامرة تمامًا، وكان المخالفون يُعاقبون بالجلد. أما في الولايات المتحدة، فقد ارتبطت المراهنة لفترات طويلة بالفساد والجريمة المنظمة، حيث أصدرت ولاية نيويورك عام 1873 قانونًا صارمًا للقضاء على مؤسسات القمار.
لكن مع الوقت، تغيّرت هذه المواقف، وظهرت ولايات مثل نيفادا ونيوجيرسي كمعاقل للكازينوهات الشرعية. ومع انتشار الأنشطة المقننة، لم تعد المراهنات محصورة في ألعاب القمار التقليدية كسباقات الخيول، بل امتدت لتشمل الرياضة بشكل واسع، حيث أصبحت صناعة قائمة بذاتها تشمل المراهنات على مباريات كرة القدم، الملاكمة، وغيرها.
المراهنة على السياسة والحروب: بين الربح والانحطاط الأخلاقي
في خطوة مثيرة للجدل، بدأت المراهنات تمتد إلى السياسة والنزاعات العالمية. ففي الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2024، تم السماح للمواطنين الأميركيين بالرهان على الفائز في السباق الرئاسي بين نائبة الرئيس كامالا هاريس والرئيس السابق دونالد ترامب، ما أدى إلى تراكم رهانات تجاوزت 6.3 ملايين دولار. لم تقف الأمور عند هذا الحد؛ إذ شملت المراهنات أحداثًا درامية مثل احتمالية الرد الإيراني على اغتيال قيادي فلسطيني، أو استمرار الحرب على غزة.
يرى بعض الخبراء أن هذه الرهانات قد تعكس استطلاعات رأي غير رسمية وتساعد في استشراف الأحداث، لكن الحقيقة أكثر قتامة. فهذه الظاهرة تكرّس لعقلية تسعى وراء الربح دون اعتبار للتداعيات الإنسانية والأخلاقية. والأسوأ أن هذا السلوك قد يتحول إلى أداة ضغط قوية بيد لوبيات المراهنات التي قد تتلاعب بموازين القوى العالمية.
من الرياضة إلى الحروب: خطورة الخروقات
المراهنات الرياضية ليست بعيدة عن الخروقات. تجارب عديدة كشفت كيف استغل بعض اللاعبين والفرق النظام لتحقيق مكاسب مالية. مثال ذلك إيڤان توني، مهاجم برينتفورد، الذي تورط في المراهنة على خسارة فريقه، وكذلك لوكاس باكيتا، الذي كشفت تقارير أن عائلته راهنت على تلقيه بطاقة صفراء في مباراة بالدوري الإنجليزي، وهو ما حدث فعلاً.
ولا ننسى فضيحة “توتو نيرو” الشهيرة في إيطاليا عام 1980، التي أفضت إلى هبوط فرق كبيرة مثل ميلان إلى الدرجة الثانية بسبب التلاعب في نتائج المباريات. هذه الأمثلة تكشف كيف يمكن للمراهنات أن تصبح أداة لزعزعة النزاهة، ليس فقط في الرياضة، بل في السياسة والحروب.
العودة إلى ساحة الكولوسيوم: العالم ساحة مراهنات
إذا استمرت ظاهرة المراهنة على النزاعات والحروب في الانتشار، فإن العالم سيعود إلى زمن روما القديمة، حيث كانت ساحات القتال مثل الكولوسيوم تعج بالمراهنين والمتفرجين على معارك المصارعين حتى الموت. الفرق الوحيد هو أن الأسلحة تغيرت، لكن الدوافع لم تتغير؛ الربح بأي ثمن.
ما يشهده العالم اليوم من ممارسات في مجال المراهنات ينبئ بخطر محدق. قد يتحول هؤلاء “المراهنون الكبار” إلى قوة ضاغطة على صناع القرار، يديرون الحروب ويشعلون الأزمات لتحقيق مصالحهم، دون أي اعتبار للبشرية أو القيم الأخلاقية.
إن لم يتم ضبط هذا اللوبي المتنامي، فإن مستقبل العالم قد يشهد مزيدًا من العبث بمصائر الشعوب، ويصبح الكوكب بأسره ساحة مراهنات مدمّرة.