spot_img

ذات صلة

كل المقالات

المغرب يحقق رقمًا قياسيًا في عائدات السياحة لعام 2024 بفضل انتعاش غير مسبوق

أعلنت وزارة السياحة والصناعات التقليدية والاقتصاد الاجتماعي والتضامني أن...

أمريكا ترد على خذلان الغرب

الكاتب: نصوح بوكرين محلل للسياسات الدولية الاستراتيجية

دونالد ترامب ينتهج سياسة التقوقع على الذات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في الطريق إلى عالم رباعي الأقطاب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

انطلاقاً من مؤشر القوة الاستراتيجية، سنفهم على الفور أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد القوة العظمى الوحيدة في العالم. هذه الصفة التي اكتسبتها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لم تعد ذات معنى اليوم، في عالم ترسم معالمه ليس فقط بالقوة العسكرية الضخمة، و لكن بالعديد من الأمور الأخرى المهمة.

كان الاتحاد السوفييتي يقود المعسكر الشرقي في مواجهة المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة، و بعد انهيار الحلف الأول استمر الثاني في رسم معالم العالم الجديد. لكن مدة ثلاثون سنة من الهيمنة الغربية على العالم جعلت حلفاء الولايات المتحدة، يضخمون القوة التي أصبحوا عليها، و يرتكنون إلى خفض الانفاق العسكري و التكنولوجي و الاستخباراتي، بل و ينقلون خبراتهم لمناطق متخلفة بحجة التنافسية العالية و إغراق أسواق الدول المستقبلة، و هو ما أفضى في نهاية الطريق إلى هدم الهوة الهائلة في إمكانات التصنيع مع الغرب لدى الدول المستقبلة للاستثمارات و على رأسها الصين و اندونيسيا و تايلاند و فييتنام و الهند. بالمقابل زاد الانفاق العسكري و التكنولوجي و الاستخباراتي لدى المنافسين المحتملين و هم روسيا و الهند و الصين.

حلفاء أمريكا الأوروبيين سعو إلى كسر الهيمنة الأمريكية عليهم دون حساب العواقب، إذ حاولوا التكتل في كيان اقتصادي واحد، و منافسة الدولار الأمريكي. هذا التكتل سرعان ما تحول إلى نقطة ضعف بسبب محاولة قضم الأراضي السوفييتية، و تباين إقتصاداته و المنافسة على زعامته بين ألمانيا و فرنسا و المملكة المتحدة. و هو الأمر الذي جعل الولايات المتحدة تنشغل بمشاكله في مواجهة روسيا العائدة من الرماد، و إغفال الخطر الصيني الذي يتقدم بثبات و قوة و سرعة كبيرة.

إن مفهوم المعسكر الغربي بدأ يتلاشى تدريجيا منذ سنة 2003 عندما لم تستطع الولايات المتحدة حشد جيوش الحلفاء لغزو العراق، و لم تجد بجانبها سوى المملكة المتحدة، و اضطرت إلى المناورة لضمان مشاركة رمزية اسبانية بعد تدخل الولايات المتحدة لتهدئة المغرب جراء مشكل جزيرة ليلى.

إن دونالد ترامب يعرف جيداً، أن المعسكر الغربي و معه حلف الناتو قد انهار بالفعل منذ أول اختبار سنة 2023 و تحول إلى ظاهرة كلامية و اعلامية ليس إلا، و هو ما يفسر فشل العقوبات الغربية على روسيا، و يعرف ترامب جيداً أن الغرب تحول إلى حليف غير موثوق للولايات المتحدة ظل لمدة خمسة وعشرون سنة يطعنها من الخلف، و هو ما ولد الشعور بالخدلان و الغضب الذي ينتاب ترامب تجاه حلفائه، مما جعله يتخد قرار التخلي عن إنقاد الغريق الأوروبي، و الغربي عموماً.

تنتشر القواعد العسكرية الأمريكية في كل بقاع العالم و عددها 840 قاعدة تقريبا، نتيجة لعب الولايات المتحدة لدور الدركي أثناء و بعد الحرب العالمية الثانية، و الحرب الباردة. و هو ما فرض عليها تحمل أعباء تنظيم و حماية التجارة العالمية رغم تقاطع مصالحها مع ذلك. لكننا اليوم و بعد الهيمنة الصينية على التجارة، أصبحنا أمام وضع شاذ و هو حماية القواعد الأمريكية للسفن التجارية الصينية و بدون مقابل، مع العلم أن تشغيل هذه القواعد يكلف الولايات المتحدة عشرات المليارات من الدولارات، دون أن تستفيذ منه بشكل مثالي، مما فرض إعادة التفكير في هذه القواعد العسكرية، إما بالاخلاء و خفض عددها أو تنقيلها لمناطق أهم. و هو ما يتناسب مع استراتيجية ترامب الكبرى المبنية على زيادة النفوذ و تعزيز القوة الذاتية بالبر الرئيسي، و خفض التكاليف، كما فعل مع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية التي ظلت تشتغل منذ سنة 1961 إلى أن قام ترامب قبل أيام بحلها، هذه الوكالة كانت تستنزف الخزينة الأمريكية عبر تقديم رشاوى عينية في هيئة مشاريع و استثمارات، نفس الأمر بالنسبة للقواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في العالم، و كذا كلفة مراقبة الحدود الأمريكية، و هذه الاجراءات الثلاث فقط تكلف الولايات المتحدة نحو 300 مليار دولار سنويا، و هو رقم كبير يقترب من الناتج الداخلي الخام المصري الأول في إفريقيا.

إن الإذلال اللحظي الذي شعرت به ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، جعلها تبني سياساتها بناءاً على معياري: استعادة القوة و الانتقام. سياسات ألمانيا بعد الحربين العالميتين، اتسمت بالشعور بالإهانة، و هو نفس الشعور الذي ينتاب قادة و شعوب العديد من الدول، نذكر منها روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، و الهند جراء الاحتلال و التقسيم البريطاني، و تركيا بعد احتلالها و سقوط الامبراطورية العثمانية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، و إيران لعدة فترات متراكمة بدءاً من انهيار الامبراطورية الفارسية على يد المسلمين و إلى اليوم، و المغرب جراء قضم أجزاء كبيرة من ترابه و حرمانه من عمقه الافريقي، بل و استمرار احتلال مدينتين لا تبعدان سوى بمرمى حجر. أوروبا بكاملها كانت تشعر بالإهانة بعد انهيار امبراطوريتيها و احتلال المسلمين للعديد من الأراضي فيها. هذا الاحساس بالإهانة تشعر به الصين أيضاً جراء احتلالها و استباحة أراضيها من اليابان و الغرب عموماً، و تتصرف بناءاً عليه، إذ يعتبر هذا موحداً للأمة (و لا أدل على ذلك هو استمرار استعمال المقولة الشهيرة حكرونا لمراركة” في حشد الصف الداخلي الجزائري و الحفاظ على الوحدة الداخلية الجزائية من التفتت). الشعور بالإهانة يعتبر محفزاً رئيسياً و دافعاً لعجلة التنمية خصوصاً أننا نتحدث عن ورثة إمبراطوريات انهارت أو تراجعت بفعل الامبريالية الغربية، و كل هذه الإمبراطوريات التي ذكرنا ستستعيد مكانتها ما دام هذا الشعور بالإهانة هو المحرك لسياساتها.

في قراءة لترتيب الدول بناءاً على مؤشر القوة الاستراتيجية، سنجد أن أربعة دول مؤسسة لمجموعة بريكس تحتل المراتب الستة الأولى من هذا المؤشر و هي الصين و الهند و روسيا و البرازيل، إلى جانب الولايات المتحدة و كندا، مما يعني أن البريكس في مواجهة الولايات المتحدة و كندا. من هنا نبعت فكرة الوحدة مع كندا المجاورة التي طالب بها دونالد ترامب، بعدما تجاوزت القوة الاستراتيجية للصين، قوة الولايات المتحدة الاستراتيجية. ضم كندا سيعيد الريادة المطلقة للولايات المتحدة فيما يخص القوة الاستراتيجية، و هي دولة ضعيفة عسكريا و اقتصاديا بالمقارنة بالولايات المتحدة و قليلة السكان، و لها حدود برية مشتركة معها لآلاف الكيلومترات، كما تقطع كندا عن الولايات المتحدة الطريق البري إلى آلاسكا.

حسابات ترامب تقول بأن أوروبا الحليف القوي للولايات المتحدة هي عبارة عن فسيفساء متناقضة تحمل بوادر فنائها، إذ تدفع المنافسة المحتدمة بين أقطابها إلى قيامها بخطوات تضر بالغرب ككل و تضر بالجيران، و هذا مرض أصاب أوروبا منذ مدة طويلة و تسبب في عدة حروب كانت العالميتين الأكثر فتكاً فيها، و هي لا تزال تدبر أمورها بمنطق ملوك الطوائف، في حين أن القوة في الهيمنة و التحالف.

شخصية ترامب الواقعية و الصريحة و التي تنهل من قاموس الدكتاتورية، تجعل منه محاوراً جيداً يستطيع عقد الصفقات مع الخصوم أكثر من عقدها مع الحلفاء. ترامب هو دكتاتور يريد أن يرى دولته قوية و غنية، و لن يلتفت إلى حلفائه ما داموا يقفون في وجه سياساته التي ستفضي إلى استعادة الولايات المتحدة لقوتها، و ستتقاطع مصالحه مع مصالح الصين و روسيا.

لن يتردد ترامب في مقايضة أكرانيا مثلا في مقابل إعتراف روسي بسيادة الولايات المتحدة على غرينلاند أو كندا أو المكسيك، و لن يتردد في إنهاء مشكل جزيرة تايوان في مقابل اعتراف صيني مماثل. براغماتيته تجعله يقبل بالتنازل عن بعض المصالح البعيدة في مقابل ضمان مصالح أقرب و أكبر.

فهم ترامب أن مهمة الدفاع عن حلفائه تضر ببلاده أكثر من خدمتها، و أن خصومه يتكتلون و تتعاظم قوتهم، لذا، سيفضل سياسة تقاسم الكعكة و أخد النصيب الأكبر منها، عوض المحاولة اليائسة للاستحواد عليها.

سيسعى ترامب للتقوقع على الذات و التمكن من ضم غرينلاند السهلة، و كندا التائهة، و المكسيك التي يملك من أوراق الضغط عليها، ما يجعلها تستجيب لطموحاته بسهولة، و منها طرد مهاجري المكسيك جميعاً.

بهذه السياسة الجديدة، يسعى ترامب لإدارةكامل قارة أمريكا الشمالية تقريبا و اختزال طول الحدود الجنوبية إلى الثلث و إلغاء كامل حدود الشمال مع كندا، و هو الامر الذي سيخفف كثيراً أعباء حراسة الحدود، و لن تكون للولايات المتحدة أية حدود برية سوى مع غواتيمالا، و هناك ستقوم بعزل حدودها بكل السبل لوقف الزحف البشري من المهاجرين.

تبلغ مساحة التكتل الجديد الذي يطالب به ترامب، حوالي 24 مليون كيلومتر مربع، مما سيجعل الولايات المتحدة إمبراطورية مترامية الأطراف متجاوزة روسيا الاتحادية بكثير، مع عزلة برية عن بقية العالم، و استبعاد أي عمل عسكري أو إرهابي خارجي، اللهم إذا تعلق الأمر بأسلحة جد متطورة.

يرى كثيرون أن طموح ترامب هو عمل عدائي يستهدف العالم، في حين هو عمل دفاعي انهزامي إلى حين. اقتنع من خلاله ترامب بضرورة تقوقع الولايات المتحدة على ذاتها و اقتسام الكعكة العالمية مع خصومه البارزين و هم الصين و روسيا، و بعدهم الهند بنسبة أقل مع احتفاظه هو بالنصيب الأكبر، عالم يعج بالقطيع التي تبحث عن راعي يحميها، و سيحصل ترامب من أوروبا على كل ما يريد و عن طيب خاطر، إذا ما أرادت حماية نفسها و الهروب من الهيمنة الروسية.

ثلاث محطات غيرت نظرة ترامب إلى الأمور، و جعلته لا ينشغل بالتراشق، و التركيز على المهم و هو حماية الذات:

أولها: دفعت سياسة ترامب العدائية سابقاً، تجاه الصين، إلى كسر هذه الأخيرة للحاجز النفسي لذيها بضرورة عدم التسرع و المواجهة، و فرضت عليها التكيف مع الوضع الجديد، بعدما قام ترامب بمنع شركات التكنولوجيا الأمريكية من توريد شركة هواوي الصينية، الأمر الذي ترتب عنه إقتحام الصين لمجال استراتيجي أمريكي، و تمكن هواوي من ابتكار البديل و في أقل مدة. مع العلم أن شركات الأنترنيت الصينية الأخرى تنافس بقوة نظيرتها الأمريكية، و هي تيكتوك و علي بابا و آخرون.

ثانيها: إقتحام الصين بقوة لمجال استراتيجي آخر تحتكره الولايات المتحدة، و هو مجال الذكاء الاصطناعي، عبر تطبيقي ديب سيك و كوين علي بابا. و هو ما دفع بترامب إلى اليقين باستحالة بقاء شبكة الانترنيت الحالية على شكلها الحالي، و انقسامها على أقطاب متكاملة من الخدمات، أو انقسام الشبكة نفسها.

ثالثها: مشاهد صاروخ اوريشنيك الروسي الفرط صوتي و هي تخترق الأجواء الأكرانية، جعلت ترامب يشعر بالرعب، لأن الأراضي الأمريكية لم تعد مؤمنة بفعل عدم امكانية أي نظام دفاع، اعتراض هذا الصاروخ، و هو ليس نوويا بمعنى لن يتسبب في حرب نووية، و بالتالي يمكنه الوصول لأي نقطة في الولايات المتحدة في لحظات، الأمر الذي يفرض بناء قواعد دفاعية صاروخية متقدمة، سواء بغرينلاند أو المكسيك، لحماية التراب الأمريكي، مع يقين ترامب بعدم جدوى الدفاع عن أوروبا، ما دامت لا تدفع المقابل لحمايتها.

البرازيل هي الأخرى ترك لها ترامب مجالها الحيوي في الجنوب و يراهن على لعبها دور الحياد أو الدعم، إذا ما تغيرت طبيعة النظام الحاكم هناك. كما يراهن على المغرب لتعويض النفوذ الفرنسي و الحد من النفوذ الروسي و الصيني المتنامي بإفريقيا و تعزيز النفوذ الأمريكي، و يراهن على الدور التركي في الحد من الهيمنة الروسية إذا فشل الخيار الاسرائيلي.

تركيا راعية الإخوان المسلمين في العالم، توفق بين النفوذ التركي و الأمريكي على حساب البقية، و تسمح بنفوذ روسي و صيني قليل، ستجد نفسها في مواجهة المخطط الاسرائيلي الذي يتعارض مع سياستها التي تنبني على استعادة النفوذ العثماني، مما سيعقد الوضع في سوريا و غزة بشكل كبير.

اسرائيل لن تدوم شهراً واحداً دون خطوط إمداد أمريكية، و هي كلفة كبيرة بالنسبة لترامب لا يجب الاستمرار في دفعها، و بالتالي فهي بحاجة إلى مجال جغرافي كبير حتى تستطيع الاعتماد على نفسها، و هو ما سيحاول ترامب تحقيقه عبر محاولة اقتطاع أراضي من الجيران الضعفاء طبعاً و هم الأردن و لبنان و سوريا و باقي الأراضي الفلسطينية و بمباركة القوى المعنية بالمنطقة.

أما أوروبا فلن تبقى لها مكانة من دون جوارها العربي و التركي، و عليها الاعتماد على علاقات متميزة مع مصر و المغرب و تركيا و الإمارات العربية المتحدة و المملكة العربية السعودية، إن هي رغبت في إيجاد مكان لها في هذا العالم الجديد.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا
Captcha verification failed!
فشل نقاط مستخدم captcha. الرجاء التواصل معنا!
spot_imgspot_imgspot_imgspot_img